السبت، 1 مايو 2010


مسرح ومسرحيون ومقاهي

(3)

بقلم/ بعيو المصراتي

عن الحارة والشعب والمسرح

مع الفنانين مصطفي المصراتي ، هدى عبد اللطيف، سالم الطبيب والفنانة المغربية كنزه فريدو في عرض مسرحية "بعد العشرة تبان الناس" * علي مسرح محمد الخامس بالرباط ـ المغرب سنة 1985.

عندما بدأت تعلم فنون المسرح بواسطة الفرق الأهلية المسرحية، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي بمدينة طرابلس الغرب، كانت المدينة في تلك الفترة تتعرض لتقلبات ومتغيرات عديدة، حيث امتلأت أحيائها وأزقتها بمسميات وشعارات انتشرت هنا وهناك وكانت تصول وتجول في شوارع المدينة، حيث تقرأها أين ما التفت وأينما وليت وجهك، تلك الشعارات التي سميت في ذلك الوقت بمقولات الثورات السياسية والثقافية والاجتماعية والصحية والإنسانية والعلمية..الخ، فاختلطت الكلمات والمصطلحات وربما الأيديولوجيات، فنتجت لنا إرهاصات أخرى حملتها تلك المرحلة فغيرت لنا وجه المدينة وناس المدينة، وأصبحت ملازمة لنا أين ما ذهبنا أو توجهنا، شعارات تحمل الكلمات لكن واقع الحال يقول غير ذلك، وهنا كان لزاماً على المشهد الثقافي بكل أطيافه وألوانه وأنواعه أن يتحمل أنواع التغيير ليسايروا رغبة من حاولوا تغيير المدينة.

عندما كنت في سن الخامسة عشر من عمري، كلما التقي بتلك الشعارات أنظر إليها أتمعن فيها أُحاورها متسائلاً:- ماذا حل بالمدينة؟ لماذا تضمحل؟ لماذا تطفأ أنوارها؟ لماذا تقفل أبوابها؟ لماذا تقفل نوافذها ومقاهيها؟ أسئلة حاضرة في ذهني أينما ذهبت وأينما توجهت، في المدرسة، في البيت، مع أصدقائي، أو عندما بدأت خطواتي الأولي في طريق المسرح مع أول فرقة أنتسب لها وهي " فرقة الجيل الصاعد "، فعندما أداخل في ممراتها وحجراتها، أجد نفسي محاطاً بمقولات وشعارات، ليست كتلك التي في شوارع المدينة، كلمات عظيمة عن المسرح والفنان، كلمات وشعارات مُبروزة في إطارات جميلة، فنقرأ في تلك الزاوية "أعطني مسرحاً أُعطيك شعباً" ثم نجد في زاوية أخرى "المسرح أستاذ الشعوب" ثم في ممر أخر نجد لوحة كتب فيها " المسرح أب الفنون " وفي ردهةُ أخري كُتب "الفنان كالشمعة تحترق لتضيء للغير"، وهكذا زينت الفرقة بلوحات شعاريه مغايرة تماماً لما هو موجود من شعارات ومقولات في شوارع المدينة.

من هنا تعلمت بأن للمسرح دور حقيقي، دور راسخ منذ ألاف السنين، المسرح ظل الإنسان يلازمه في كل مكان، فالبداية كانت به وبظله الذي ضخمته نيران التدفئة حيث كان الناس مجتمعين حولها، ومن هنا بدأ المسرح. فالإنسان بطبيعته يمثل ويمسرح حياته العادية يرتجل كل يوم طقوسه اليومية، بما تحمله من أحزان وأفراح، يحاول دائماً أن يغير الأشياء المفروضة عليه، فهو مخير ومسير وأحياناً كثيرة ملزم.

ضحكات المرحوم الأستاذ "محمد زميت"** أحد مؤسسي الفرقة، ضحكاته المجلجلة في أركان الفرقة، أيقظتني من سرحاني وحديثي الغير منظور مع نفسي، تحسست ساعتي ونظرت إليها، عرفت أن الحصة على وشك أن تبدأ، فنحن في دورة تدريبية على فنون وعلوم المسرح، وكانت البداية مع الأستاذ عبد الله هويدي عن الكتابة في تاريخ المسرح.

وهنا يستحضرني ما قاله الكاتب المغربي عبد الكريم برشيد، مؤسس المسرح الاحتفالي بالمغرب وعلى مستوي الوطن العربي، الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي حيث يقول في معرض طرحه عن مسرح محمد مسكين، مسرح النقد والشهادة وهو أحد أهم مؤسسيه ومنظريه وكاتب مسرحياته، ” إن الكاتبة الحقيقية لا تكون إلا شهادة ونبؤة، شهادة علي الحاضر، ونبؤة بالنسبة للمستقبل، وبغير هذه النبؤة يغيب الإبداع في الكتابة. تغيب الرؤيا ويحضر النظر، وبذلك تتحول الكتابة إلي تقرير بارد يعكس المشاهد، تقرير يكرر الموجود من غير أن يوجد الجديد“. (1)

أثناء فترات الراحة خلال هذه الدورة والتي كانت بفرقة "الجيل الصاعد" في نوفمبر 1975م، كان لنا حديث مع الدكتور كمال عيد، وهو أحد المحاضرين الأكاديميين المصريين وله مساهماته العديدة في شتي فروع الفنون المسرحية في مصر أو عندما بدأ العمل في ليبيا، حيث قال عن المقاهي الأدبية ” لقد شكلت المقاهي الأدبية والثقافية، ذاكرة للثقافة والأدب والفن في كل مدن الوطن العربي، وذاكرة لتاريخ المدينة وتاريخ الوطن، بحراكه الثقافي، المسرحي، الفني والسياسي، فأصبحت مكان يصقل فيه كثير من الفنانين والكتاب والمسرحين والصحفيين والمبدعين، مواهبهم الفكرية وتحصيلهم الثقافي والفني من خلال فتح باب الحوار والنقاش والإطلاع“ . ( 2)

ويؤكد هذا الناقد والصحفي أحمد عزيز، وهو كذلك أحد المحاضرين في هذه الدورة، كان النقاش يدور حول ما يطرحه الصحفيون ويسطره الكتاب والأدباء، عبر الجرائد اليومية التي تصدر في طرابلس الغرب وبنغازي، خلال ستينات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، كجريدة الرائد، الميدان، طرابلس الغرب، الرواد، الحقيقة، البلاغ، الجهاد، ومجلة الإذاعة.

وهنا عادت بي الذاكرة إلى مقاهي الأدب والثقافة من خلال كتاب ومسرحيون عاصروها، فعلى سبيل المثال لا الحصر كان مقهى الحصائري بشارع عمر المختار، ومقهى الأرورا بميدان الجزائر "مقهى الفنجان الذهبي"، ولهذا المقهى حكاية سأحاول استحضارها من عربة ذاكرتي.

ففي عام 1982 كنت أصور فيلم وثائقي، للشركة العامة للخيالة في تلك الفترة والتي ألغيت الآن (كنوع من الدعم للفن والفنانين)، وكانت أحداث ذلك الفيلم الوثائقي تدور حول مدينة طرابلس في مرحلة الستينيات، وكان أحد مواقع التصوير في هذا المقهى، الفيلم كان من تصوير الفنان المرحوم محمد أبو بكر سويسي، وإخراج الفنان المرحوم محمد الساحلي، هذا الفنان المبدع والمتواضع، وهنا أود أن أسرد لكم موقف كان قد حدث معه ورواه لي، يقول الفنان المرحوم محمد الساحلي: عن لقائه بالفنان العالمي "أنتوني كوين" في فيلم الرسالة، عندما كانا يستعدان لتصوير المشهد الذي جمعهما معاً، ألتفت له "أنتوني كوين" متسائلاً عن أفلامه وعن جوائزه، عندها ضحك الساحلي ضحكته المعهودة فالتفت له جميع من كان في موقع التصوير، فأعتذر الساحلي لهم ثم ألتفت للفنان العالمي "انتوني كوين".. هامساً له قائلاً : ” أقول لك سراً لا تقله لأحد أنا لم أمثل أفلاماً، ولم أتحصل علي جوائز في أي مشاركة من مشاركاتي، فأنا إنسان بسيط وممثل بسيط جداً، وأنا متضايق جداً من هذه البهرجة التي من حولي، أنني أرتدي بدلة ليست مقاسي “ (3)، قالها الساحلي وهو يهم واقفاً بعد أن طلب منهما المخرج مصطفي العقاد الوقوف أمام الكاميرا لبدأ تصوير المشهد.

صورا مشهدهما الذي جمعهما من أول مرة دون إعادة، فصفق لهما جميع من كانوا في ذلك الموقع وخاصة للساحلي، حيث كان أنتوني كوين أول من هنأه علي أدائه الرائع في هذا المشهد، ولكنه ظل مستغرباً بأن موهبة مثل الفنان محمد الساحلي، لم تحضي بالدعم والرعاية التي تستحقها، ليتم الاستفادة منها فنياً بالصورة الصحيحة.

ربما الفنان أنتوني كوين عرف بعدها السبب، فقد روى لي المرحوم الفنان محمد الساحلي موقف كان قد حدث مع الفنان أنتوني كوين، وذلك عندما كان يتجول في مدينة طرابلس بكل راحته دون أي مضايقه من الجمهور، فلم يلتفت له أحد ولم ينتبه له أحد أو يطلب أن يوقع له أو أن يأخذ صور معه أو حتى يحيه أو يشير له مجرد إشارة، عندها قال كلمته التي تناقلها من عملوا معه ” هذا الشعب إما يكون يعرف كل شيء عن الفن والفنانين، حتى أصبح لا يعيرهم أي اهتمام بهم، أو أنهم لا يعرفون عنهم أي شي ولذلك تجاهلوني ولم يعيروني أي اهتمام “، قالها الفنان العالمي وذهب في سبيل حاله، وهو لا يعلم أن المقولات والشعارات المنتشرة في جميع أنحاء المدينة، ربما هي من أنست الناس وأهل المدينة، فأصبحوا لا يرون غير كلماتها التي غزت شوارعها وأزقتها وسيطرت علي ذاكرتهم، فنسوا أن يحيوه أو حتى يبتسموا له، أو يعطوه اوتوغراف ليوقع لهم عليه، فليلتمس لنا عذراً هذا الفنان، فنحن جمهور المدينة لا نعرف نجماً ولا نجومية، فذاكرة مدينتنا فرض عليها درساً واحداً ونجما واحداً.

رحل عنا الفنان محمد الساحلي في العشرين من يوليو عام 2000، وكان يحلم أن يقدم الكثير والكثير عن الحارة الليبية في مدينة طرابلس، التي أحبها وعشقها وهو من ترعرع في بيوتها وأزقتها وشوارعها، رحل عنا صاحب "الإختيار، المصير، عايدة، إمقادير، مصباح القرية "، رحل عنا الساحلي بعد أن توقفت عربة إبداعه بسنوات قبل المغادرة الأخيرة، فكان مسلسل " الفال" عام 1987 أخرها، أعاد فيه ذاكرة الحارة، والمدينة والوطن. رحم الله الساحلي، فقد كان أنساناً وفناناً مبدعاً متواضعاً أحب الناس وأحبوه وهذا ما كان يريده وهذا ما كان يسعي إليه منذ بداية مسيرته الفنية والإبداعية.

وعودة لمقهى "الأرورا" مقهى الثقافة والأدب بميدان الجزائر، حيث كنا نصور الفيلم الوثائقي، كان المقهى يعج بالزبائن من مختلف المستويات والتكوينات والثقافات، والباعة المتجولين يجوبون المقهى عارضين بضاعتهم بمختلف الأشكال والألوان. فالمقهى هو تشكيلة وتوليفة للحياة، والمجتمع يسلط الضوء على تلك الفترة بكل تداعياتها وإسقاطاتها.

كان مقهى "الأرورا" يصور الحالة المشهدية الثقافية والأدبية في مدينة طرابلس، شأنه شأن باقي المقاهي الأدبية، فنجد على سبيل المثال لا الحصر، الأستاذ المرحوم عبدالله القويري، الكاتب المرحوم محمد أحمد الزوي، الأستاذ الكاتب أحمد الحريري، والأستاذ المرحوم بشير كاجيجي وهو أحد فناني فرقة الأمل للمسرح في تلك الفترة، ونجد كذلك الأستاذ محمود الهتكي مؤلف مسرحية "ولد إشكون"، وكانت له أرائه السياسية في الشارع الليبي في ستينيات القرن الماضي، وكذلك نجد الحاضر والمتواجد إلى يومنا هذا على صفحات "الانترنت" الإعلام المفتوح الدكتور أحمد ابراهيم الفقيه، معرفاً بالثقافة والأدب الليبي الحديث والقديم منه ، مفسحا الفرص للتواصل مع شباب هذه الأيام، ومع شرائح مختلفة ممن يتصفحون هذه الشبكة، رغم الاختلاف في الثقافات والآراء والقناعات، ولكن يبقي التواصل مهم والنقد الجيد البناء مهم أيضاً، والذي يلتزم المهنية والأخلاق والاحترام المتبادل، حتى وإن كان في هذا الفضاء الإعلامي الحر، والمفتوح علي مصراعيه لكل المعبرين عن أرائهم وأفكارهم بحرية، بدون مقص الرقيب، وبصاصي السلطة الذي يسجلون كل كبيرة وصغيرة علي صفحات هذا الغول الإعلامي، محاولين إيقاف ما يمكن إيقافه وبكل الطرق ومهما كانت الوسيلة المستخدمة للإيقاف.

وهذه دعوة أخرى لأدبائنا ومثقفينا ومسرحينا وفنانينا، لكي يعيدوا إحياء أقلامهم ليكتبوا ويدونوا ويوثقوا، ويطرحون أرائهم فيما يهم الوطن والمواطن، فلتحركوا عرباتكم التي أرتدمت بالأتربة والغبار ولتصلحوا ما بها من أعطال، ليكون هناك تواصل ما بين القديم والجديد، ما بين الماضي والحاضر ليبنى لنا المستقبل.

أما ثقافة الطمس والإهمال والتهميش وإلغاء كل ما هو قديم، وهي الثقافة السائدة في مجتمعنا الليبي حالياً، فهي لا تجدي نفعاً ولا تؤسس مستقبل، فمن ليس له ماضي لا يكون له حاضر وبتالي ليس له مستقبل، وما عربة الذاكرة التي تسترجع لنا الماضي على لسان معاصريه، عبر المقاهي الأدبية والثقافية إلا جزء بسيط من أحياء الماضي، هذا الموروث المسرحي والأدبي والفني، والتي تزخر به بلادنا التي أسس بنيانها بكفاح أجيال وراء أجيال، قدمت الكثير والكثير في كل المجالات لتأسيس الدولة الليبية، والتي لم تأتي من فراغ بل بجهد ومثابرة وعطاء وتضحيات.

للأستاذ والكاتب والمؤرخ "علي مصطفي المصراتي"***، أطال الله في عمره دوراً كبيراً في الثقافة والأدب والمسرح في ليبيا، أبان فترة الخمسينات والستينيات من القرن الماضي حتى وقتنا الحالي، وهو الذي قال كلمته في مقابلة صحافية له نشرت في فترة السبعينيات عن المسرح، حين غير المقولة المشهورة "أعطني مسرحاً أعطيك شعباً" إلى "أعطني شعباً أعطيك مسرحاً"، حيث نالت ما نالته من نقد وتسأل عن المعنى والقصد من قلب وتغيير هذه المقولة المسرحية، وما الهدف والمراد من هذا التغير؟ الأمر الذي دفع الكل أن يدلوا بدلوه بالطريقة التي يعتقد أنها صحيحة، فهناك المؤيد وهناك المتحفظ وهناك من ظل يصطاد في الماء العكر، مع المتغيرات السياسية التي حدثت في ليبيا آنذاك.

كان الأستاذ علي مصطفي المصراتي يتنقل بين مقاهي طرابلس، فمن مقهى أدبي ثقافي بشارع عمر المختار، إلى مقهى أخر في ميدان الجزائر، ومن هذه المكتبة إلى مكتبة أخرى، يقتنص أحدث الإصدارات الأدبية الليبية والعربية. كانت روحه المرحة دائماً حاضرة معه، مع كل من يلتقي به في الشارع، سواء كانوا من الفنانين أومن أصدقائه أو من عامة الناس، الذين يصادفهم وهو في طريقه قاطعاً المسافات على أقدامه، فالأستاذ المصراتي – حفظه الله- لا يحب ركوب العربة، طبعاً ليست عربة الذاكرة، فهو أبحر فيها وأنتج لنا كنوزاً ثقافية وأدبية، ستبقي مسطرة في أروقة الثقافة الليبية والعربية وكذلك العالمية، وذاكرته التي أتحفتنا بمئات المؤلفات والمؤرخات والقصص بمختلف أشكالها وأنواعها.

أما عربة الواقع فهو يتهرب منها ولا يحبذها، فكنت عندما أتصادف معه في أحد شوارع المدينة، وهو حاملاً معه كتبه وجرائده وهموم المدينة، أتوقف بجانبه وأطلب منه أن أقوم بإيصاله بسيارتي، حتى أجد فرصة للحديث مع هذه الذاكرة المليئة بكل ما هو مفيد، ولكنه يقول لي ممازحاً بأنه يريد أن يصل إلى مكانه مبكراً، (في إشارة منه إلى أزدحام السيارات وعرقلة المرور)، ثم يعتذر مني بكل أدب ولباقة ويذهب مبتسما في حال سبيله.

أبني محمد كانت أول شخصية أدبية وثقافية يتعرف إليها عن قرب في شوارع مدينة طرابلس، وذلك بحكم سكني بوسط المدينة، وكذلك لأن أستاذنا الكبير وكما ذكرت، دائم التجوال في شوارع "عروس البحر"، متأملا ومراقبا ومسجلا كل ما يدور في هذه المدينة، حتى أصبحت من مخزون ذاكرته يعرف كل ما فيها، أزقتها، أحيائها، شوارعها، حواريها، ناسها ومبانيها.

كان أبني محمد كلما لمحه ماراً يهرول له مسرعاً، فيحيه ويسلم عليه وأحياناً يدخل معه في نقاش وأحاديث عن القصة والكتابة والأدب والفن، وأستاذنا ينصت له باهتمام، ويتحدث معه بكل عفوية، مبديا إعجابه وسعادته بهذا الفتى، وهذه الجرأة التي يتمتع بها في هذه السن، ويحضرني الأن موقف حدث بينه وبين أبني كان قد رواه لي محمد، "أول قصة متكاملة يكتبها محمد أعطاء منها نسخة إلى الأستاذ المصراتي لقراءتها وإعطاء ملاحظاته عليها، ثم بعد أيام التقى محمد به وسأله عن رأيه فأجابهُ: أنها بداية مقبولة ويجب أن لا يستعجل على نشرها، ثم أهداء الأستاذ المصراتي نسخة من مجموعته القصصية "الوفد" إلى محمد، عندها طلب أبني منه التوقيع عليها فطلب الأستاذ المصراتي القلم من محمد ليوقع به، ولكن القلم تجمد وأبى أن يخط حرفاً، عندها إلتفتت هذه القامة الإبداعية إلى هذا الفتى الذي لا زال يحبو في طريق الأدب وقال له ” قلمً ردي كرداءة قصة صاحبه“، أتبعها بضحكته المعتادة وضحك محمد معه ثم أخرج قلمه الذي لا يتوقف عن الكتابة وخط كلمته وتوقيعه، ولازلنا نحتفظ بهذا الكتاب ممهوراً بتوقيع الكاتب الكبير علي مصطفي المصراتي في أرفف مكتبتنا".

لقد كان هذا التواصل بين أبني محمد والأستاذ علي مصطفى المصراتي مهماً، ولو كان مرور الكرام، ولوعلى الأرصفة وفي الشوارع، ففي هذا الوقت لا مقاهي أدبية ولاثقافية موجودة لتلتقي فيها أجيال مختلفة من الكتاب والأدباء والفنانين، فلا جديد يستفيد ويأخد من القديم، ولا القديم يري مايقدمه هذا الجيل الجديد، فلا مقاهي الانترنت المنتشرة في كل مكان يمكن أن تعوض هذا الفراغ المعرفي والثقافي والأدبي بين الشباب في وقتنا الحالي.

إذن للمقاهي الأدبية والثقافية وعلى مر السنين دوراً بارزاً في إرساء قواعد اللبنات الأول للأجيال، عندما كانت هذه المقاهي متواجدة ومنتشرة على الساحة الليبية، في فترة الخمسينيات والستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي. وعلى مستوى الوطن العربي كان لهذه المقاهي دوراً مهماً في التواصل والالتقاء، بين الفنانين والأدباء والمثقفين في مدن مثل القاهرة، بغداد، دمشق، بيروت، تونس، الجزائر، طرابلس الغرب، بنغازي، والدار البيضاء، فكان المسرحيون والفنانون والأدباء الليبيون يترددون على مقاهي هذه المدن، عندما يكونوا في احتفالية أو مهرجان فني أو مسرحي أو أدبي أو أي اتصال ثقافي علي أي مستوى.

فكانت هذه اللقاءات وهذا التواصل مهماً بين فناني وأدباء الوطن العربي من جهة وبين أشقائهم الليبيين من جهة أخرى، فاتحاً باب الحوار والنقاش وتدارس كل ماله علاقة بالمواطن والمثقف العربي، في ظل الظروف والأزمات السياسية التي تمر بها الأمة العربية في تلك الفترة، فأفرز ذلك دوراً مهماً للمواطن والمثقف الليبي، في مناصرة ودعم كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، بكل الطرق المادية والمعنوية والبشرية.

كانت المقاهي الأدبية والثقافية في طرابلس وبنغازي، محطة مهمة يضعها المثقفون والأدباء والفنانون على أعناقهم وذلك من خلال ما يقدموه من إنتاج أدبي وثقافي وفني، وما يقومون به من جولات في باقي المدن الليبية، لحث الجمهور والناس على مد يد العون لإخوانهم العرب في أزماتهم ومحنهم، وكذلك حلقة وصل مهم لتحركات المجتمع المدني في ليبيا، من أجل توعية المواطن ورجل الشارع، على ما يدور حوله من قضايا سياسية داخليه وخارجية.

كان الشارع الليبي يحركه مثقفوه ومفكروه وأدباءه وسياسيوه، ملتحمين مع رجل الشارع والمواطن العادي، معبرين عن مطالبهم فهاهي شوارع طرابلس وبنغازي تزلزلها أصوات الهتافات والأناشيد الحماسية من قبل المثقف والمواطن والأديب والفنان ورجل الشارع، فنجد على رأسهم الأستاذ الكاتب والأديب علي مصطفي المصراتي الخطيب والبرلماني المعروف في تلك الفترة يجلجل بصوته في شوارع مدينة طرابلس وفي ساحة ميدان الشهداء، وهو من له باع طويل في هذه المظاهرات والاعتصامات، منذ أن كان بزيه الأزهري محفزاً الشعب على التظاهر والمطالبة بالحقوق المشروعة للمواطن بما يكفله له الدستور أساس الدولة.

إذن التداخل بين المواطن ورجل الشارع وبين المثقف والأديب والفنان، كان واضحاً على الحراك السياسي في ليبيا في عقد الستينيات، وكان له دوراً واضحاً وفعالاً في رضوخ الحكومات في ذلك الزمن لمطالب الشارع والجماهير، إنه حراك واعي ومنظم ينمّ عن ثقافة المواطن العادي والمستمدة من ثقافة أدبائه وكتابه وفنانيه. فالحرية المتاحة للمواطن العادي في تلك الفترة يحركها المثقف والأديب والفنان والسياسي، في ظل حراك ثقافي وسياسي تحركه مؤسسات ثقافية واجتماعية، وكان للمقاهي الثقافية دوراً بارزاً ومهماً في ذلك.

وعند "تداخل الحكايات عند غياب الراوي"****، بدأت حقبة جديدة ومرحلة أخرى تغير فيها الشارع المسرحي، والثقافي، والأدبي، والفني، وتغيرت معها حركة المواطن ورجل الشارع، فأصبحت كلها محكومة بظروف وأوضاع سياسية أخرى تختلف شكلاً ومضموناً، تغيرت معالم المدينة ومقاهي المدينة وبالتالي تغير ناس المدينة.

وهنا توقفت الذاكرة وتوقف الجواد، لكنها بقيت ترصد كل ما يحدث وما ينتج عن ذلك، فكانت ذاكرة مبدعينا تقتنص كل شيء أمامها صغيراً كان أم كبيراً، تتحدث به هنا وهناك ربما لم تسطره في أوراق أو في كتب أو جرائد ولكنه بقي يتنقل ويتداول من جيل إلى أخر، يوثقون ويدونون ويسردون عن مسرح وشعب وثقافة أهل المدينة.

أقفلت جهازي، ولملمت أوراقي، واحتسيت ما بقي من قهوتي، وغادرت مقهى المدينة بمانشستر، وأنا أردد المقولة التي غيرها الأستاذ علي مصطفي المصراتي "أعطني شعباً أعطيك مسرحاً"، نعم الشعوب مهمة في تغيير المسرح السياسي، والثقافي، والأدبي، والفني، والمسرح الحياتي الذي تعيشه يوماً بيوم، الشعوب مهمة في تغيير قواعد اللعبة المفروضة عليها، ولتاريخ الشعوب في التغيير قصص كثيرة، أخرها ما حدث في قيرغيزيا.

مشيت في شوارع مانشستر، مع الأجواء الغائمة المستمرة على أمل أن تشرق علينا الشمس،” فنحن دائماً محكومين بالأمل “ كما يقول "الكاتب سعد الله ونوس" وأنا في الطريق التفت في كل الاتجاهات باحثاً عن أي مقولات أو شعارات تلف المدينة، عن "مانشيتات" تنخر في جسد المدينة، فلم أجد ما أبحث عنه، عندها تسألت بتعجب أذن من يحكم المدينة!!؟.

وللحكاية بقية..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش :-

* مسرحية "بعد العشرة تبان الناس" من تأليف علي أحمد باكثير، اقتباس الفنان المرحوم سليمان المبروك، إخراج الفنان مصطفي المصراتي، وهذا العرض كان مشاركتاً من فرقة المسرح الحر في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بالمغرب سنة 1985م ، كـ مشاركة تشرفيه للفرقة

** الفنان المرحوم "محمد زميت" أحد مؤسسي فرقة الجيل الصاعد بطرابلس الغرب في سنة 1960، قدم الكثير من الأعمال المسرحية تمثيلاً وإدارة مسرحية، فقد كان ممثلاً كوميدياً بامتياز لم تستغل إمكانياته بالشكل المطلوب، وكذلك كان إدارياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة، قدم كل وقته لفرقته وللمسرح الليبي، عمل بصمت ورحل رحمه الله بصمت

1 ــ "د. عبد الكريم برشيد" ديوان الكتابة الحيوية: باب الكتابة بالكلمات 1987م ، كاتب ومسرحي مغربي، ولد سنة 1943م ، بمدينة أبركان بشرق المغرب، مؤسس المسرح الاحتفالي في سبعينيات القرن الماضي، وأحد أهم منظريه عبر أكثر من 35 نصاً مسرحياً معظمها كتب باللغة العربية، وله عدة كتب في كثير من قضايا المسرح المغربي والعربي.

2 ــ "د.كمال عيد" من الشخصيات الشهيرة في عالم المسرح وعلومه ، ولد بالقاهرة في 18/ 6 / 1931م، أستاذا بقسم الدراسات العليا بأكاديمية الفنون، وأستاذا محاضرا بقسم الإعلام بجامعة عين شمس، وهو عضو بلجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر, عمل في ليبيا مستشارا فنيا بوزارة الثقافة ( 1974م ـ 1977م ) ، ثم أستاذا للدراما بجامعة الفاتح ( 1977م ـ 1987م).

3 ــ "محمد الساحلي"، أحد أهم مؤسسي الدراما الليبية ممثلاً ومخرجاً منذ سبعينيات القرن الماضي، وأحد مؤسسي المسرح القومي " المسرح الوطني حالياً " بمدينة طرابلس، بداء حياته العملية مدرساً، ثم أنتقل إلي العمل الفني قدم الكثير من الأعمال في المسرح بدأها مع الفرقة الوطنية وفرقة الأمل والمسرح الوطني والمسرح الحر، وفي التلفزيون قدم الكثير من الأعمال أهمها التي تحاكي الحارة الليبية كان أخرها مسلسل "الفال" سنة 1987، أهم مشاركة له في السينما كانت في فيلم "الرسالة" إخراج الفنان المرحوم مصطفي العقاد وكان دور" اليهودي المرابي" بنسختين العربية والإنجليزية، تولي في نهاية السبعينات من القرن الماضي إدارة الشركة العامة للخيالة.

***"علي مصطفي المصراتي"، أديب وكاتب ومؤرخ ليبي، أصوله من مدينة مصراتة بليبيا، إسكندراني المولد سنة 1926م، نال الشهادة العليا من كلية أصول الدنيا، وشهادة التدريس العليا من كلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية بمصر سنة 1946 م. ألتحق بحزب المؤتمر الوطني برئاسة بشير السعداوي سنة 1948 م وكان خطيباً له. أنتخب لمجلس النواب بليبيا سنة 1960 م، وكان له صوتاً معارضاً بجلاء القواعد الأجنبية ووحدة البلاد. له تاريخ حافل في الكتابة والتوثيق والموروث التاريخي، فكتب القصة بمختلف أنواعها، والدراسات النقدية والأدبية والمقالات الثقافية بمختلف اتجاهاتها في معظم الجرائد الصادرة في مصر وليبيا منذ خمسينيات القرن الماضي. كان له حضور مهم في المقاهي الأدبية والثقافية في مدينة طرابلس في ستينيات القرن الماضي، وكذلك من أهم المحاضرين في الملتقيات الثقافية، لفصاحته اللغوية وخطابته القوية مع الجرأة التي يتمتع بها. مؤلفاته فاقت 45 كتاباً في مختلف فروع الأدب والثقافة، وترجمة أعماله إلي الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الصينية والهندية.

**** "تداخل الحكايات عند غياب الراوي" هو عنوان مسرحية قدمت في منتصف السبعينيات في مدينة بنغازي، من تأليف منصور بوشناف وإخراج عبد الفتاح الوسيع وللمؤلف مسرحية أخرى بعنوان "عندما تحكم الجرذان"، هاتان المسرحيتان كانتا نقطة الفصل مع السلطات الحاكمة في تلك الفترة، فأحكمت قبضتها علي المسرح والمسرحيين من خلال الرقابة الشديدة، علي كل ما هو معروض على كل خشبات المسارح في ليبيا.

***************

ليست هناك تعليقات: