السبت، 17 أبريل 2010



لماذا تركت الحصان وحيدا؟'
لجواد الأسدي: شهادة ضد الموت والواقع


سميرة عوض

55 دقيقة من ' اللهاث' غضبا من ' الغضب' وعليه، وغضبا من ' الموت' وعلى قسوته، أمضاها الجمهور في المسرح، تماما كما أمضاها ممثلو العرض المسرحي ' لماذا تركت الحصان وحيدا؟' على خشبة المسرح وقبيل الانتقال إلى الجو المسرحي، لا بد من تذكر الحقائق التالية:

منتج العرض: مسرح بابل ـ لبنان
سيناريو وإخراج: جواد الأسدي ـ العراق
الأداء: بسام أبو دياب، عبدو شاهين، نسرين حميدان ـ لبنان
النص: الشاعر محمود درويش ـ فلسطين/ العال
مكان العرض: مسرح المركز الثقافي الملكي ـ الأردن

وكل ما سبق أشبه ما يكون بـ ' كونية' شعرية درويش، كما ولا بد من التذكير أيضا بأن على الجمهور ' أن يدخل' المسرح دون ' توقعات استباقية' لأن العرض ' مدهش' بالمعنى المسرحي، و' صادم' بالمعنى الوجودي، ذلك أنني- وبالتأكيد غيري ظللنا طيلة العرض نتحسس كم هو قريب الموت منا.... الموت بمعناه الفيزيائي، والموت بمعناه الإنساني، إذ ظل السؤال الذي طرحه الممثلون وردّدوه طيلة العرض ' لماذا تركت الحصان وحيدا يا أبي؟'، وردده جواد الأسدي حين قرر مسرحة شعر محمود درويش.. ليردد السؤال الاستنكاري الوجودي الذي طرحه الراحل درويش: لماذا تركت الحصان يا أبي، فتخرج من العرض برفقتك ذات السؤال، يدق في جدران عقلك، ويعتصر قلبك.

والعرض المسرحي، الذي قدم في إطار أيام عمان المسرحية 16 على مدار يومين، حظي بجمهور حاشد، ولكن للحقيقة ' كثيرون' خرجوا غاضبين، وعندما حاورتهم، اكتشفت وكأنهم حضروا ليشاهدوا درويش، كونهم اشتاقوه، متناسين أن العرض المسرحي مستوحى من نصوص لمحمود درويش، وأنهم لن يشاهدوا درويش يلقي أشعاره بأسلوبه الخاص، كما أنهم لن يشاهدوا سيرة شعرية لقصائده، وهذا ما أضاع عليهم ' فتنة العرض المسرحي' الذي أحسبه تراجيديا سوداء تسخر من الموت، لسبب بسيط وجوهري في آن معا - انه الأقوى.

والعرض جاء أشبه بتحية للشاعر الراحل وقراءة وجودية ممسرحة لعلاقة قصيدته بجدلية الموت والحياة والألم والوضع الفلسطيني المزمن، وليس بعيدا عنه الوضع في العراق بلد المخرج.

بصوت غاضب قوي يقرأ ممثلو جواد الأسدي مقاطع من ' حالة حصار' و' الجدارية' و' لماذا تركت الحصان وحيداً؟' عبر صياغة ممسرحة ' صوتيا' و' حركيا'، تجسدت في ديكور أسود، ونعوش، وثلاثة ممثلين، نقش على جسد أحدهم بالحروف الأبجدية، حركات عنيفة ترافقت مع موسيقى عنيفة، غبار/ ضباب كثيف، أصوات بنبرة درامية عالية. هناك أيضا الجدران الفلسطينية المرتفعة، وهناك التعذيب والاعتقال في عزلة الجدران المعدنية التي تحاصر النعوش، وسينوغرافيا من جدارين معدنيين على جانبي الخشبة لهما نوافذ حديدية على يمين ويسار المسرح، وآخر في عمقه، يميل مع سطح المسرح بنحو زاوية 45 درجة، مشكلا ' جبلا' حديديا أملس حاداً، تضافر مع إضاءة ' قاتمة' مناسبة نفذها علاء ميناوي، فيما تولى تنفيذ الصوت عبد الله الأسدي، وتنفيذ الموسيقى باندا رسيكي.

والعرض المسرحي بحسب مخرجه وصاحب الرؤية السنوغرافية جواد الأسدي العراقي المقيم في لبنان ' محاولة لكسر موروث قراءة الشعر ذي النبرة الصوتية وتحويله إلى جمل بصرية يشتبك فيها الجسد وما يحمل من تفجر حسي وروحي مع الغناء التراجيدي والتمثيل البعيد عن الكليشيهات الموروثة، المتعارف عليها، ويجري التشابك على منصة سينوغرافية للتماعات ضوء وصوت وجسد، ولكيانات تعبيرية مسرحية، مقترحا شكلا جديدا في تقديم الشعر على خشبة المسرح.

ويرى الأسدي أن ' في الجدارية ثمة مرارة وحيرة وحزن يلتمع ويلتم على خسارات وجودية وشهية مفتوحة اللذة لاستكمال حياة حتى في الموت، الموت نستولوجي مجدافه حنين ومتعة العودة إلى الحياة المستحيلة

وزاد الأسدي: ' يوجعني شعب درويش المحدد على عباءة وطنه، الشعب المهموم المقسوم، الممزق الرئة، المرفوع على جبل جباه تريد أن تتوثب لتعبر، لكنها تتمرد لتموت في الموت وتشعل قناديل النبيذ مع حور عين، شرسات يسحبن وراءهن عربات ضخمة من الموتى العراة، العراق وفلسطين وحصان واحد يجر عربة النجاة فقط وسط تخمة الموتى في الممرات المحتشدين على أبواب الشوارع، لأوطان خيالية من المخلصين، بلا دور أوبرا ولا ندابات ولا مروض نساء ولا خنازير سياسية ولا شعراء يحولون الحب إلى طريدة والمرأة إلى مطرود أبدي، ممثلون، راقصون، يغنون في فراغ حديدي، وأجساد مائلة تبتلع الأوطان مثل خبز طري من باب الجنة الشعرية، ممثلون شغوفون بالحفر والصهيل على أرض دائمة العطش".

ويظل الأسدي في كواليس المسرح - بعد انتهاء العرض ـ يردد متسائلا: ' لماذا نترك الحصان وحيداً يلوك الأغاني ويمضغ الأعراس تحت حوافر قدميه الحرتين وذيله الممتد من حفرة في الجسد إلى ثقب في السماء؟.

من جهتها قالت المخرجة الأردنية سوسن دروزة التي تابعت العرض: ' هذه المسرحية تناقش ( جزئية) عاطفة معينة في أعمال محمود درويش، انها جزئية الغضب، وكأنما المخرج غاضب لان الموت اخذ محمود درويش، فهو في هذا العرض لا يبحث في تجليات شعر محمود، فمن الواضح ان العرض لا يهدف إلى تقديم التسلسل الشعري الخاص بمحمود درويش، وكأنما المخرج اراد من الديكور الذي يترواح بين السجن، وخزان غسان كنفاني في روايته ( رجال في الشمس)، وبين سفينة نوح وبين الخلاص، اذ يبدو الجدار الحديدي الوسطي المائل مثل السلم الاملس، فالممثل محاصر وكأنه ' يفعفط' من حرارة الروح، وهذا ما تدل عليه ' جملة الممثل / الشاعر' انتظر لأرتب حقيبتي.

وترى دروزة أن ' العرض كان بحاجة لبحث أكثر ومزيد من التعمق كي لا تتكرر جزئية الغضب المريعة طيلة العرض، حتى ندرك فكرة الحياة بالمقابل، وكانت هذه الجزئية ضرورية للعرض - كما ترى - متساءلة: هل الحياة نفسها هي الجحيم؟ أم هم يتوقون للهروب من الموت؟؟ ولذلك وجدت فيه استعادة لكنفاني وسارتر، وهل هم في الموت؟ ام في الحياة...؟؟؟

وتقترح دروزة أنه كان يمكن إجراء تنقل بين الاجزاء، فمن الممكن انكار الموت، ثم الغضب من الموت، ثم تقبل الموت... حتى نعرف كيف نبرر الموت ونتعايش معه. معلنة احترامها لخيار المخرج الاسدي ومقدرة له، واصفة المسرحية بـ ' أنها عرض بصري جميل ومتقشف في استخدام المكان والأدوات إلا انه أدى غرض المسرحية عبر سنوغرافيا جميلة وغير متكلفة.
**************
عن القدس العربي

ليست هناك تعليقات: