السبت، 17 أبريل 2010


'مانيفستو السرور'

لتوفيق الجبالي: المسرح صورة تشكيلية


نبيل درغوث

توفيق الجبالي كائن مسرحي بامتياز. يعيش المسرح كلّ ساعة بل كلّ دقيقة في جدّه وهزله مع الناس. حياته مسرحية متواصلة من دون نهاية. يعشق المسرح كعشق المتصوفة حتى نكاد نقول إنّه المسرح والمسرح هو.

رجل يؤمن بالخطاب المسرحي كفعل ثقافي يمكن أنّ يغيّر العالم ويمكن لنا أيضا النجاة به من الدمار والقهر والغبن والتهميش الذي نعيشه في ظلّ الموجة الجديدة للامبريالية تحت مسمى 'العولمة' هذا النظام الجديد التي تسعى الولايات المتحدة بكل ما أوتيت من قوة فرضه علينا وأن نقبل به فلسفة حياة وأن نتخلّى عن مورثونا وعظمة ثقافتنا المتجذرة في شرق الحضارة. نحلم من خلال مسرح توفيق الجبالي بغد أفضل وصبح قد ينجلي من العتمة. مسرحه كأنه جرعات مضادة للعولمة.

منذ منتصف الستينيات وتوفيق الجبالي طلائعي في مسيرة المسرح التونسي مستقبلي الرؤية فهو من أصحاب بيان الأحد عشر الذي من بين ما جاء فيه من أفكار أنّ 'المسرح وسيلة ضرورية لتغيير ممارسات الناس وهو يوقظ الضمائر ويقف ضد السلبية وعلى المسرح أن يقوم بوظيفة التحريض والاحتجاج ويدفع المتفرج إلى أن يتساءل باستمرار عن قضاياه اليومية'.

وحول أهم ما كانوا يدعون إليه الأحد عشر في بيانهم قال الدكتور محمد المديوني : 'يدعون إلى العمل على إعطاء المسرح معنى اجتماعيا والسعي إلى إبراز وظيفته التغيرية وجعله فاعلا وفي خدمة الناس ... ونادوا بإقامة حوار مع الجمهور الواسع والتفاعل مع شواغله اليومية وتنزيلها منزلتها التاريخية والعمل على توعيته توعية يصبح معها قادرا على تغيير حاله ومنزلته'. أطلّ علينا توفيق الجبالي هذه المرة بعمل جديد. فهو كلما يقدم عملا إلا أحدث ضجّة وأقلق أصحاب العقول المتكلسة وأثار سخطهم من حوله.

عمله الجديد مسرحية 'مانيفستو السرور' اعتمد فيه على كتابات علي الدوعاجي (1909-1945) الذي اختار منها الجبالي ما رآه متماشيا مع الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الراهن للمواطن التونسي (والعربي). هذا الاقتباس لم يفقد النص قيمته وإنما زاده تأصيلا. وفي استحضار هذه الكتابات إحياء للعمل الأدبي والذاكرة الثقافية والهوية. يقول توفيق الجبالي : 'نريد أن يكون الدوعاجي فنان المساكين (الغلبة) وأن يكون عزيزا كريما ذكيا هازئا مختالا بخياله الدافق الحر اللذيذ... وليغفر لنا الدوعاجي أن كنا أهملناه طول هذا الوقت ذلك إننا حسبناه مقيما خارج الوطن في بلد اسمه 'بلاد الطررني'.

إن مسرح توفيق الجبالي عمل سينوغرافي ذو دلالات متعددة. ينتمي إلى فنون الفرجة الخالصة. ووفق متطلبات هذه الفرجة أنجز توفيق الجبالي مسرحية 'مانيفستو السرور' واعاد كتابة الدوعاجي ركحيا وهذا ما نستشفه في لوحة 'راعي النجوم' (نص مسرحي لعلي الدوعاجي) من خلال توضيب ركحي اعتمد ستائر بلاستيكية بيضاء اللون واستغلال محكم لتكنولوجيا الإنارة ليؤثث بهما توفيق الجبالي الفضاء الركحي بصريا.

فانعكاس الضوء على أجسام الممثلين شكّل صورة ظليه للممثلين من وراء الستائر(Paravent juxtapose) )مربعة الشكل) ليصبح المشهد كأنّه نيغاتيف الأفلام الفوتوغرافية. فهذه الرؤية الإخراجية تتقاطع مع فنون وجماليات أخرى كالفوتوغرافيا. فاجتماع الإضاءة والستائر وظلال الممثلين كون صورة تشكيلية تصويرية تؤكد القدرة الإخراجية الكبيرة لتوفيق الجبالي.

لكن هذه الستائر (كأنها مستعارة من 'جان جينيه') والإضاءة لم تكن مختصرة على لوحة راعي النجوم فقط بل كانت مكون أساسي من التوضيب الركحي للوحات الأخرى مع توظيفات مختلفة من لوحة إلى أخرى برؤية سينوغرافية ذات مفردات بصرية وتشكيلية تحمل الكثير من الدلالات الأيديولوجية والاجتماعية.

مانيفستو السرور' مسرحية قائمة على ثنائية فعل كلامي وفعل حركي تتجلّى فيه درامية الشخصيات المتباينة في مستوياتها الثقافية والاجتماعية ورغباتها ومواقفها. فبوليفونية الأصوات والحركات الجسدية والإضاءة المتحركة الموظفة لكسر (انعكاس الضوء) الوجوه والصور حولت خشبة المسرح إلى فضاء علاماتي مركب معبرا عن مشاعر وعواطف وأحاسيس تختلج صدور الإنسانية جمعاء.

مع الستائر والإنارة والموسيقى التعبيرية والكوريغرافيا الجسدية والصورة البصرية شكّلت بمجموعها نسيجا فنيا متكاملا للعمل. هذه الغواية الإبداعية المسرحية برهنت على إمكانيات تعبيرية عريضة لتوفيق الجبالي ويبقى المسرح كما قال الناقد المسرحي عواد علي : 'فضاء جمالي - دلالي لتمظهرات خطابية مفرطة في اللاتجانس تتنافر وتتعايش وتدخل في علائق حوارية تفضي دائما إلى نتيجة ما.

"هذا هو الجبالي طائر الركح الذي لا يحط إلاّ واقفا".
***********
كاتب صحافي تونسي
عن القدس العربي

ليست هناك تعليقات: