الأحد، 7 مارس 2010


السينوغرافيا وفضاء الركح

بقلم/ بعيو المصراتي

مع الفنانة زهرة مصباح في مسرحية النزيف المسرح الحر ليبيا 1985

المعنى الأصلي للسينوغرافيا: هي فن الزخرفة المسرحية أي محتويات الزخرفة في العرض المسرحي، ثم تطورت في معناها المتداول لتصل إلي فن الديكورات في الفرجة المسرحية، إن كلمة "سينوغرافيا" كلمة قديمة كان يستخدمها الإغريق والرومان، كما استخدمها أيضاً معماريو عصر النهضة، والسينوغرافيا كعمل تنفيذي علي الركح المسرحي نجدها من المصطلحات المسرحية القديمة في العالم، إلا أنها قد دخلت وتعامل بها فنيا وحديثا على الخطاب المسرحي العربي، وهي لا يزيد عمرها في هذا المسرح عن 25 عاماً أو أقل. ويذكر أن المسرحيون العرب المغاربة و الجزائريون بحكم التواصل مع الثقافة المسرحية الفرنسية، هم أول من تعامل فعلياً مع هذا الفن على ركح المسارح، كما أنهم تعاملوا نظرياً من خلال البحوث والدراسات النقدية والفنية حولها في المهرجانات و التظاهرات المسرحية.

السينوغرافيا في البدء كان مصطلحاُ يونانيا ويعني كل ما يتعلق بالرسوم المتواجدة على خشبة المسرح " (1). وبالرغم الاعتقاد السائد بقوة في أن هذا المصطلح لم يقتصر على الديكورات فحسب، وإنما تعداه إلى حركة السينوغرافيا مع بقية العناصر المكونة لشكل الفرجة المسرحية وإعطاء العرض المسرحي الموصفات الكاملة له." بدءا من المضمون النصي وما يتبعه من أداء للممثل ومن مستلزمات التنسيق لصورة الفضاء المسرحي. كما أن الذي ينطبق على سينوغرافيا المسرح ينطبق على غيره من سينوغرافيا الفضاءات الأخرى سابقة الذكر. صحيح أنها جميعا ولدت من رحم فن الزخرفة، وإنها اشتقت من الكلمة اليونانية والتي تعني: تجميل واجهة المسرح بألواح مرسومة، عندما كان المسرح خيمة أو كوخ من الخشب أو مبنى" (2).

وعلى المستوى العرض المسرحي الليبي, لم يتعامل المسرحيون الليبيون مع هذا الفن إلا منذ سنوات قليلة وعلى مستوى محدود جداً وربما لا يذكر، قد نجد في بعض الأحيان على كتيبات بعض المسرحيات التي عرضت في الآونة الأخيرة في ليبيا كلمة السينوغرافيا إلا أنها لازال التعامل بها يعد مجهولا وغير واضح عند معظم العاملين في المجال المسرحي الليبي، الذين حتى وإن تعاملوا معه فأنهم لا يتعاملوا معه بمعناه الأصلي ، بمفرداته وفلسفته التي يقوم عليها.

إن عدم توفر التكنولوجيا الحديثة في المسرح الليبي، شكلت مفهوم أخر لفن السينوغرافيا، رافقت عمل كافة الفرق المسرحية وكذلك المخرجين، حيث لعبت الوسائل التقنية البدائية السائدة هناك، على سبيل المثال لا الحصر "مسرح الكشاف" بمدينة طرابلس (والذي يعد المسرح الوحيد المجهز لإقامة عرض متكامل عليه)، أدت إلي تقليص التطور التقني في الديكور والإضاءة والموسيقي. فتكنولوجيا الخشبة التي وصل إليها المسرح في العالم والمقصود بها (المسرح الدوار، والعتلات الرافعة) شكلت قفزة نوعية مهمة في تطوير عمل المخرجين و سهلت استخدام وتوظيف الديكور وعملت على تجهيز العرض الواحد بأكثر من ديكور، خاصة بعد تطورت إدارتها بواسطة التيار الكهربائي، كذلك ما وصلت إليه المسارح في العالم من تكنولوجيا ليزرية ورقمية عالية الجودة، وكل هذه التطورات والتكنولوجيا غير منظور تواجدها علي المدى القريب أو البعيد في المسارح الليبية.

بناءا على ما سبق ذكره، فأننا نتفق علي أن التكنولوجيا لها دور مهم في إيصال الرؤى الإخراجية والنصية للعرض المسرحي، عبر بوابة السينوغرافيا بما تحمله هذه الكلمة من مفردات لغوية وفعلية للتعبير عنها، ولا ننسى بأن الممثل فيها يعد العنصر المهم و المحور المركزي في هذه العروض المسرحية.

كما أننا نتفق أيضاُ علي أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي لخلق عرض مسرحي متكامل، تلتقي فيه الرؤية الإخراجية مع الرؤية النصية للمؤلف والمتمثلة في عناصر الفرجة المشهدية، من نص و إخراج وممثل وسينوغرافيا حيث كلا يكمل بعضه البعض ليعطي الصورة الكاملة للعرض المسرحي. وإذا قلنا بأن التكنولوجيا فقط هي من ستعطي للعرض المسرحي السينوغرافيا التي يحتاجها هذا العرض، فيعتبر هذا سوء فهم للعلاقة بين التكنولوجيا وبين مفردات ومعاني السينوغرافيا و التي نحن بصدد الحديث عنها في هذه الورقة.

وبناءاً علي ما تم عرضه يقول * د. كمال عيد " السينوغرافيا تعني الخط البياني للمنظر المسرحي حرفيا ضمن التعبير المسرحي. أما الفلسفي فيعني علم المنظر الذي يبحث في ماهية كل ما على خشبة المسرح وما يرافق فن التمثيل المسرحي من متطلبات ومساعدات تعمل في النهاية على إبراز العرض المسرحي جميلا , كاملا , متناسقا ومبهرا أمام الجماهير"(3).

وكمحاولة لتوصيل الفكرة من خلال حياة الإنسان اليومية، فالسينوغرافيا احتلت دور متميز في العمق التفسيري للأفعال والأشكال لدى الإنسان في حياته العادية، حيث أنه يمارس سيونوغرافيا خاصة بوسائل بسيطة تتفاوت من فرد إلى آخر، وذلك حسب الإمكانيات المتاحة له من اختيار السكن، الديكورات والإكسسوارات المنزلية واختيار الملابس تصاميمها وألوانها، فهو يأتي من تصور ذهني وتدخل الوعي المباشر وهو بذلك يعطي رغبة أو حاجة إلى تجميل شكل المحيط الذي حوله ليعبر بذلك عن إشباع حاجاته الداخلية والوجدانية.

وقد برزت موجة في فرنسا، نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، نزعة أخرى ثار أصحابها على كل المعاني القديمة لفن السينوغرافيا خارج المسرح، في ما يمكن أن نطلق عليه انفتاح السينوغرافيا، وهذا يعني تطبيق ما يتصل بخشبة المسرح في مجالات حياتية أخرى غير العرض المسرحي أو الفرجة المسرحية.... فهناك سينوغرافيا المعارض المختلفة، والأحداث المهمة وسينوغرافيا المناسبات والاحتفالات الدينية والاجتماعية والشعبية، وفي جميع هذه الحالات تهدف السينوغرافيا إلى أعمار الفضاء المطلوب وخلق إطار معين وتحديد و"بروزت" فراغ ما، وأضافت طابع خاص عليه من أجل شخصيات وحكايا معينة وصياغة وجهة نظر أو أكثر لإظهار الصورة الحيوية والجميلة لهذه الحالة.

السينوغرافيا هي أيضاً وسيلة تعبير مرئية وليست سمعية، فالإدراك البصري يعتمده المتلقي "المتفرج" وتكون الأداة فيه العين البشرية وهي من الحواس الأساسية لدى الإنسان العنصر الفعال في تلقي الصورة المرئية، والتي تعتمد علي سينوغرافيا الفرجة المشهدية. والتي تبنت عدة عناصر داخلها، في تطويع لحركة الديكور والأزياء و الماكياج والإضاءة والألوان والسمعيات، حتى دخلت على تشكيلات جسد الممثل وطريقة الأداء وهو نقطة الارتكاز في العرض المسرحي الناجح والذي تشتغل عليه و به كل العناصر التي تم ذكرها.

وبهذا تكون السينوغرافيا تجاوزت عناصر الديكور الثابت والجاثم على المسرح، أو أي عناصر إيحائية أخرى كالإكسسوارات، بل أصبحت أحد العناصر الفاعلة في الفرجة المسرحية، وأصبح لها تأثير سمعي و بصري و فلسفي ليكون العرض المسرحي فعالاً ومؤثراً. فالمسرح التجريبي و الحديث في العقود الأخيرة، تغلّب على نظريات الديكور الثابت، نتيجة تجارب متعددة ومتواصلة للوصول إلي لغة سهلة وبسيطة للمتلقي.

يقول المخرج العراقي ** د. جواد ألأسدي " لا تنبع فكرة السينوغرافيا من ثرثرة الموبيليا، و لا من بهرجة الألوان والأضواء، ولا من الأشكال الهندسية التي تشكل الفراغ تشكيلاً عضوياً ".

وهذا ما سعى إليه المخرج الإنكليزي *** بيتر بروك ( Beta Brook ) في عرضه المفتش الكبير، المقتبس عن رواية ( الأخوة كارامازوف ) للروائي الروسي المعروف فيودر دوستويفسكي ( Dostoevsky ) وتمثيل الإنكليزي بروس ميرز ( BruceM Myers) لقد استطاع المخرج بسهولة ويسر أن يدفع بمقولته من مكان العرض " الركح " إلى المتفرجين " الصالة " دون درايتهم عبر استخدام فضاء العرض المفتوح " الصالة و الخشبة " وكان تكوينه السينوغرافي قائم بالأساس على خلق حالة تواصل دائمة مع المتفرج، حيث كان الممثل الأداة الأكثر فاعلية لهذا التواصل والذي بدأ كجزء لا يتجزأ من سينوغرافيا العرض، الذي خلا من الديكورات والإضاءة المتنوعة المبهرة، مستخدماُ بذلك مسرح القسوة تمثيلاُ وإخراجاُ والمسرح الفقير من حيث الديكورات والإضاءة والإكسسوارات والمؤثرات الصوتية. فقد أبتعد المخرج عن وسائل الترفيه والمتعة البسيطة، مستبعدا الجانب التجاري الاستهلاكي للثقافة، وخلَص العرض من الأشكال التكنولوجية معتبرا أن المسرح هو فن شامل لكل الفنون التي لا تخرج إلا من الممثل الذي يقيم مقام كل المقومات الأخرى.

أما من خلال تجربتي الشخصية في عرض مسرحية " النزيف " **** والتي قدمناها بالمسرح الحر، بالمهرجان الثامن لموسم أصيلة الثقافي "بمدينة أصيلة المغربية" سنة 1985، فكانت سينوغرافيا هذا العرض خالية من أي ديكورات علي الركح، فقد أعتمد فيها المخرج علي العرض الخلفي " الشرائح " الضوئية، و التي كانت مصاحبة للوحات العرض المسرحي، حتى الموسيقي و الملابس و الإكسسوارات كلها كانت تنتمي للمسرح الفقير، و كان العرض علي مسرح الهواء الطلق وكانت المدرجات ممتلئة بالمتفرجين من كل الجنسيات نظرا لعالمية هذا المهرجان, والممتع في هذه الفرجة المسرحية "العرض المسرحي" أنه كان من أمتع العروض التي قدمت في هذا المهرجان فقوة النص وأداء الممثلين والإخراج الذي قنن وتعامل مع كل هذه المعطيات، ليصنع لنا سينوغرافيا تحاكي الواقع العربي المنهار والمقسم، ومعاناة المواطن العربي بين قمع السلطة ورغيف الخبز. وقد صفق لها الجمهور وكتبت عنها الصحافة المغربية العربية والمنشورة بالفرنسية وحظيت بجولة مسرحية في عددٍ من المدن المغربية.

ختاماً.. إن ظهور فن وعلم السينوغرافيا كمفهوم جديد مستحدث في المسارح العربية، جعل منه موضع لبس وأحياناُ سوء فهم بين أوساط المهتمين بالمسرح، لاسيما في مسرحنا الليبي وقد تم طرح مواضيعه في بعض الأحيان بشيء من الغموض لهذا المصطلح الذي دخل في الخطاب المسرحي حديثاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1- زينو بيوس: السينوغرافيا، ملحق الثقافة الأجنبية، إصدارات وزارة الثقافة والإعلام، دائرة الشؤون الثقافية للطباعة والنشر، بغداد1980.

2- مارسيل فريد نون: فن السينوغرافيا ومجالات الخبرة، كراس: السينوغرافيا اليوم، ترجمة: إبراهيم حمادة ، وزارة الثقافة، منشورات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 1993 القاهرة ، مصر.

3- سينوغرافيا المسرح عبر العصور، د. كمال عيد.

* د.كمال عيد: من الشخصيات الشهيرة في عالم المسرح وعلومه ، ولد بالقاهرة في 18/ 6 / 1931، أستاذا بقسم الدراسات العليا بأكاديمية الفنون، وأستاذا محاضرا بقسم الإعلام بجامعة عين شمس، وهو عضو بلجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر,عمل في ليبيا مستشارا فنيا بوزارة الثقافة ( 1974 ـ 1977 ) ، ثم أستاذا للدراما بجامعة الفاتح ( 1977ـ 1987).

**جواد ألأسدي: مخرج ومؤلف مسرحي عراقي ولد في كربلاء, عمل لمدة 14 عاما مع المسرح الوطني الفلسطيني ولاحقا مع المعهد العلي للفنون المسرحية بدمشق. أخرج العديد من الأعمال المسرحية من أشهرها رأس المملوك جابر عن مسرحية سعد الله ونوس، تقاسيم على العنبر المستوحاة من نصوص لتشيخوف، وحمام بغدادي(ويكبيديا).

*** بيتر بروك :)1925) مخرج مسرحي وسينمائي , بريطاني الجنسية ولد في لندن , فرنسي الإقامة , مؤسس المركز العالمي للأبحاث المسرحية في باريس, ومدير فرقة مسرح ( البوف دي لورد ) التجريبية حياته. بدأت حياته المسرحية منذ عام 1946 عندما قدم للمسرح والسينما أعمالا تلو الأعمال، وصلت إلى أكثر من ستين عملا مسرحياُ.

**** مسرحية النزيف تأليف الكاتب المغربي المرحوم محمد مسكين, وإخراج الفنان المغربي عبد الرزاق بن عيسي, إنتاج المسرح الحر طرابلس| ليبيا 1985 , وقام بأداء الأدوار الفنانين الليبين: مصطفي المصراتي, زهرة مصباح, هدي عبد اللطيف، مفتاح الفقيه، سالم الطبيب, الصادق أعبية، بعيو نور الدين و مجموعة من طلاب معهد جمال الدين الميلادي للتمثيل والموسيقي في تلك الفترة.

ليست هناك تعليقات: