الجمعة، 19 مارس 2010


معالجة أمريكية جديدة

" لدائرة الطباشير القوقازية "

عبد الاله مجيد


عرض على مسرح اميركان كونزرفتري في سان فرانسيسكو حاليا مسرحية برتولد بريشت الشهيرة "دائرة الطباشير القوقازية" للمخرج البريطاني جون دويل، الذي وصف الناقد الفني لصحيفة لوس انجيليس تشارلس مكنالتي عمله بالمدهش في عمق المشاعر التي تتخلل انتاجه الجديد. كثيرا ما يُقال ان بريشت والعاطفة أو الانفعال عدوان لدودان. وكان بريشت قدم مسرحه الملحمي نقيضا للدراما التقليدية المسترخية.وأراد للجمهور أن يفكر لا ان ينحب. ويلاحظ مكنالتي ان مسرح بريشت لو كان نظريا كما توحي احيانا الدراسات الأكاديمية لتلاشى عمله منذ زمن بعيد لكنه ما زال يحتفظ بأهميته وحيويته ورسالته كما أراد له مبدعه.

يستخدم بريشت كل أدوات فنه من قصة وشخصيات بل وحتى قلب المشاهد لكي يستفز ويتحدى ويُمتِع في رزمة واحدة. ويأتي المخرج دويل بقدر لافت من التجديد في عمل، قلة من المسارح الاميركية لديها العاطفة الفكرية المتقدة لتحقيقه ناهيكم عن الجرأة على اللعب مع بريشت.

يخلق دويل الذي تولى تصميم المسرحية الى جانب اخراجها، عالما منثورا بالأنقاض مستخدما أقشمة تتدلى بألوان تجريدية، مع منصة مخيفة من أجهزة الانارة وسور سجن. ويتماهى مؤثر هذا التصميم المتقشف الذي تزيده الانارة حدة، مع اسلوب دويل متناغما في الوقت نفسه مع واقع المسرحية الممزق بالصراع.
كتب بريشت "دائرة الطباشير القوقازية" حين كان يعيش مغتربا في جنوب كاليفورنيا إبان الأربعينات. وتروي المسرحية قصة خادمة شابة اسمها غروشي تنقذ رضيعا نبذه الحاكم وزوجته المغترة بعد انقلاب عسكري في مدينة صغيرة في امارة غروسينيا. وإذ تخاطر غروشي بحياتها من أجل حماية الرضيع (ممثَّلا هنا بوسادة)، تأخذه معها في رحلة صمود مشترك يثير في النهاية تساؤلا عمن له حق الأمومة في الطفل، المرأة التي وهبته الحياة أم المرأة التي حافظت على حياته.

في النهاية تكون انسانية بريشت، المفعمة بالتناقض والاثارة، أكثر أهمية لكتابته المسرحية من ماركسيته. ويتصاعد العمل الذي يتفتح في سلسلة من المشاهد ذات الحكايات الرمزية، الى استعراض مسرحي من نوع الفودفيل ما ان يدخل الصورة ازداك الذي يجمع بين السر جون فالستاف في مسرحيات شيكسبير الثلاث عن هنري الرابع، والممثل الكوميدي الاميركي غروتشو ماركس، ليكون حَكَما في قضية الطفل الذي فجأة اصبحت زوجة الحاكم تريد اعادته.

ازداك ليس مؤهلا في القانون مثل سابقيه من القضاة لكنه لا يقل عنهم فسادا فيترك احساسه الغريزي يقوده لدى البت في القضية. هو لا يفهم لماذا تريد فتاة فقيرة ليس لديها ما تعطيه سوى الحب، ان تنهض بأعباء تربية الطفل، بل انها كادت تفقد حبيبها الجندي سايمون المدلَّه بحبها، الذي يعود من الحرب ليجدها تحمل في احضانها طفلا.
ولكن ازداك الذي يرى أبعد من الرشى المستعد لقبضها في كل وقت، يبتكر طريقة قضائية مستعارة من حكمة النبي سليمان والفولكلور الصيني على السواء ـ تشد المرأتان الطفل الذي تدعيان امومته كل من طرف والفائزة يحتفظ بما يتبقى من أشلاء الطفل المسكين. ولكن المحصلة تؤكد مجددا الفكرة القائلة بفظاعة الاغراء بأن يكون المرء طيبا، في ضربة من حكمة بريشتية ذات مفارقة تعلمنا قيمة اغتنام بشر عاديين مثلنا فرصة تصويب كفتي الميزان لصالح العدالة متى ما تكون الامكانية متاحة.

يستخدم انتاج "دائرة الطباشير القوقازية" ترجمة جديدة للمسرحية انجزها دومنيك لوزانو االذي يعمل فنانا منتسبا في مسرح اميركان كونزرفتري، وهي ترجمة تزخر باللغة الاميركية الدارجة ومفردات اللعن.

يوظف المخرج دويل ممثليه في المسرحية للعزف على آلات موسيقية مثلما فعل في عمل سابق قُدم على المسرح نفسه ولكن هذا العنصر يبدو أكثر انسجاما مع بريشت منه مع المسرحية السابقة. فبادئ ذي بدء لا يسمح بريشت للممثلين ان يزرعوا أنفسهم بسهولة في تربة واقعية بل يطالبهم بأن يكونوا رواة القصة وابطالها في آن. وبالقدر نفسه من الأهمية ان عمل المدير الموسيقي نتانيال ستوكي يتواشج بلا ثغرات مع الرؤية المسرحية.

لعل رسالة بريشت بالأمل في الانسانية رغم قدرة الانسان اللامتناهية على تخريب ذاته تتسم بوجاهة سياسية خاصة في هذا الزمن على وجه التحديد. إذ يشير ازداك بلا مجاملة الى "ان التغير الذي يمكن ان نؤمن به لم يأت" ولكن بريشت يذكِّرنا بأن الكرة ما زالت في ملعبنا.

يقول الناقد مكنالتي ان مسرح اميركان كوزرفتري يستحق التهنئة على هذا الانتاج الجرئ في وقت اصبحت المسارح غير الربحية تخشى المغامرة .

ليست هناك تعليقات: