الجمعة، 26 مارس 2010


خــارج الزمن .. لروناك شوقى

فاضل السلطاني

لا تتعب روناك شوقي من نضالها المسرحي الشاق وتجريبها، في الوقت الذي تعب فيه كثيرون، من مسرحيين وغير مسرحيين، فحين تتعذر صالة التدريب، وهي غالبا متعذرة، يكون بيتها البديل، وحين يعزّ الممثلون، تحوّل أصدقاءها إلى لاعبين على الخشبة (مثل مذيعة الـ«بي بي سي» السابقة سلوى الجراح التي شاركت معها في ستة عروض سابقة)، وإذا كان هناك نقص في أعداد الممثلين، المناضلين مثلها في ظروف أقل ما يقال عنها إنها استثنائية، تلجأ إلى تدويرهم، كما عملت في عرضها الأخير «خارج الزمن»، (مثلت الجراح دور زوجة الوزير والعمة، والقديرة مي شوقي، المربية وابنة العم، وهند الرماح، الممرضة وابنة العمة)، وحين يُستعصى العثور على النص المسرحي المناسب، تلجأ روناك إلى زملائها الشعراء والكتاب، بما يشبه الإلحاح، لفعل شيء ما، وقد توفر عليهم مشقة الاختيار، فتقترح عملا روائيا، أو قصة قصيرة، وقد تفعل ذلك بنفسها، كما في إعدادها لقصة «الأرجوحة» للقاص العراقي محمد خضير، أو أعمال الروسي أنطوان تشيخوف، القصصية والمسرحية، أو الشاعر والكاتب المسرحي الأسباني غارسيا لوركا. فعلت ذلك في دمشق لأكثر من عشر سنوات، وتفعله في لندن منذ أكثر من عشر سنوات أيضا. فلا حياة لها بلا بشر يتحاورون على خشبة مسرحها الفقير دائما، ويشبكون الحكاية تلو الحكاية، وهي في الحقيقة، حكاية واحدة ذات فصول لا تنتهي: الوطن والمنفى، والحرية والقمع، والضحية والجلاد.

عمل روناك شوقي المسرحي الجديد «خارج الزمن»، الذي قدمته مؤخرا على مسرح «كوكبيت» بلندن لمدة ثلاثة أيام، يعيد سرد الحكاية نفسها، الحكاية التي لم تنتهِ بعد في أماكن كثيرة من هذا العالم، ولم تصبح بعد «خارج الزمن»، وربما أفضل من روى هذه الحكاية، هو الروائي (والسياسي) البيروفي ماريو فارغاس يوسا في روايته «حفلة التيس» (ترجمها إلى العربية صالح علماني)، وقد أصاب الشاعر عواد ناصر في اختيارها وإعدادها، ونجح في التقاط الجوهري في هذه الرواية الضخمة، التي «تبدو وكأنها كتبت عن العراق في محنته المزمنة، وابتلائه بالدكتاتور»، كما يقول ناصر.

الرواية الأصلية تتناول فترة نظام الدكتاتور روفئيل ليونيداس تروجيلو، الذي حكم الدومينيكو نحو 31 سنة (قريب من فترة حكم صدام حسين)، من 1930 حتى اغتياله عام 1961، وكان تروجيلو قد تدرب في فيلق المارينز الأميركي أثناء احتلال أميركا للجزيرة، وأصبح بعد انتهاء الاحتلال عام 1924، قائدا للشرطة الوطنية، ثم أصبح رئيسا للبلد مرتين، من 1930 إلى 1938، ثم من 1942 إلى 1952، لكنه بقي الحاكم الفعلي للبلاد إلى يوم مقتله على يد أفراد من حلقته المقربة الخاصة.

وعنوان الرواية مأخوذ من اسم أغنية ألفها نيكو لورا، وأحبها الدكتاتور نفسه، وتبدأ هكذا «لقد قتلوا التيس»، ولم يدُر بخلد الدكتاتور أن الناس سيرددونها فرحا بمقتله، لتصبح ما يشبه النشيد الوطني إلى الآن.

الرواية، كأي عمل جيد، ذات بعد إنساني شامل، مهما كانت الأسماء، سواء أكانت «زهرة» العراقية، كما في الإعداد، أو «يورانيا كابرال»، كما في النص الأصلي، ومهما كانت الأمكنة والأزمنة، سواء في العراق، منذ وقت قريب، أو الدومينيكان في الخمسينات والستينات، فالطغاة متشابهون عبر التاريخ، والدمار الهائل الذي يلحقونه بالإنسان هو نفسه، والآثار الكارثية التي تبقى بعدهم لا يمكن محوها بسهولة.

من النقطة الأخيرة، تبدأ الرواية والنص المسرحي، تعود زهرة، (مثلت دورها روناك شوقي) (أو يورانيا في الرواية) إلى وطنها بعد 35 سنة في المنفى لتزور أبيها المريض، الوزير السابق (مثل دوره علي فوزي، أحد رواد المسرح العراقي)، ولتواجه ماضيها، لعلها تتحرر منه إلى الأبد، ومن خلال هذه المواجهة، سيتكشف لنا الماضي المرعب متمثلا في سقوط الأب الأخلاقي، ففي الرابعة عشرة من عمرها، قدم الأب ابنته زهرة «هدية» للدكتاتور، للحفاظ على مكانته عنده، والسقوط الأخلاقي بقدر ما هو نتاج الدكتاتورية، هو شرطها أيضا، فالدكتاتور لا يمكن أن يصنع نفسه بنفسه، بل يصنعه الناس. تصنعه الـ«نعم» الدائمة، والخضوع الذي اتخذه توماس مان عنوانا لروايته الشهيرة التي تتحدث عن فترة النازية، ودرسها البليغ: ما كان هتلر سيكون هتلر لولا الخنوع. تعود زهرة، متجاوزة ألمها الشخصي واغتصابها المعنوي (كان الدكتاتور عاجزا جنسيا، كأغلب الطغاة)، لتصرخ بالأب: «لماذا لم تقل (لا) يا أبي؟»، وكان الدكتاتور قد حاول من قبل استدراج أمها، مستغلا غياب زوجها الوزير، أحد أعوانه المقربين، ومع ذلك، كانت زهرة ستكتفي بكلمة واحدة من أبيها: آسف، ليس لتسامحه فقط، بل ليتطهر هو أيضا من فعلته الشنيعة، وتواطئه مع جرائم الدكتاتور، لكن الأب يموت من دون أي شعور بالندم، بل يظل مصرا على الدفاع عن الدكتاتور السابق، كيف يمكن لإنسان أن يسامح آخر لا يعترف بخطئه الرهيب، بل قد يعتبره صوابا؟

لقد أفلح المعد والمخرجة في التركيز على هذا المحور، وهو الأهم، في رواية «حفلة التيس» ذات المحاور المتداخلة، فبالإضافة إلى محور عودة الابنة، التي يبدأ بها النص الأصلي والمشهد الأول من النص المعدّ، هناك محور الأيام الأخيرة من حياة الدكتاتور (مثل دوره رسول الصغير) التي يكشف فيها يوسا عن الحلقة الضيقة التي تحيط به، ودسائسهم ومؤامراتهم، وهي الحلقة التي ينتمي إليها الأب الوزير نفسه، وهناك أيضا محور الإعداد لعملية الاغتيال، ثم الاغتيال، وما تبع ذلك، من تغييرات سياسية كبيرة أثرت على مستقبل البلد كله.

بعد ضياعها في المدينة المهدمة، تعثر زهرة على البيت، الذي تغير كساكنيه، كيف يشعر الإنسان وهو يقف وجها لوجه أمام باب بيته بعد أكثر من 30 سنة؟ كيف يحس وهو يحدق بالماضي؟ تواجه زهرة، أول ما تواجه، العمة وبناتها، اللواتي ما زلن كما كنّ، يلكن الأحاديث اليومية المملة، لاهيات عن تغيرات العالم حولهن، بل جاهلات بما كان يدور في الخارج من مآسٍ ومذابح يومية على يد النظام، الذي ما زلن يدافعن عنه، لأنهن لم يكتوين بويلاته، باستثناء تلك الابنة، التي تركها خطيبها حسب أمر رسمي لأن أخاها ينتمي إلى المعارضة، تماما كما كان يحدث في العراق.

تقطع المخرجة مشهد عودة زهرة عدة مرات، لتبدأ الذاكرة استرجاعاتها الأليمة، ليس لكشف الماضي فقط، وإنما لمحاكمته أيضا، واستعانت المخرجة بالفيديو في أحايين كثيرة، تاركة لنا فسحة من الوقت لاسترجاع أنفسنا من فيضان الذكريات المفاجئة، التي تدمينا بها «زهرة»، أهي ذكريات فعلا؟ هل انتهى الماضي، ليتحول إلى ذكرى في حاضر مختلف؟ هل أصبحت هذه الأحداث الدامية خارج الزمن فعلا؟ لا شيء ينبئ بذلك. لقد تخرب شيء إلى الأبد، ليس في المكان فقط، البيت والمدينة، بل في الروح، لا يمكن ترميم ذلك، كما ترمم الآثار، فعلت الفاشية فعلها، لكن هل انتهت؟ يطل عليها وجه الدكتاتور بين فترة وأخرى، وكأنه يذكرنا بحقيقته، وليقول لنا إنه كان على صواب فيما فعل من أجل البلاد (صفة مشتركة بين كل الطغاة)، إنها ليست مسرحية فقط. إنه الواقع الصلد، والماضي الذي لا يريد أن يتحول إلى ماضٍ. يقول لنا الدكتاتور: أنا موجود، وإن كنت أغيب أحيانا، موجود فوق رؤوسكم، بل في دواخلكم أيضا.

أنا لست خارج الزمن، بل في القلب منه تماما، ولن أنتهي حتى تنتهوا أو تولدوا من جديد. ولكننا لا نولد من جديد حقا إلا إذا اكتسبنا وعيا جديدا. وهذا ما يبدو قد تحقق في حلقتها العائلية الصغيرة، بعدما انكشفت حقيقة الأب، وحقيقة النظام الذي تماهى معه حتى لحظته الأخيرة في الحياة. لم تتزوج «زهرة» في المنفى، وحتى لم يلمسها رجل، لقد قتلها الدكتاتور كامرأة وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وقتل الأب، الذي سلمها هدية له، أخلاقيا وروحيا. قتل المكان والزمان أيضا، ولم يعد هناك شيء، ولكن يبدو أن الحقيقة تستحق كل هذا الثمن الرهيب.

انتصرت زهرة كإنسان على الدكتاتور أخيرا، وعلى الأب، وعلى المنفى، وحتى على نفسها، لأنها تملك الحقيقة، وقد بلغتها للآخرين. وهذا هو درس المسرحية والرواية البليغ: لا تدعوا ذلك يحدث لكم.. لا تدعوا الفاشية تمرّ مرة أخرى.
****************
عن الشرق الاوسط

ليست هناك تعليقات: