السبت، 20 مارس 2010


مسرح ومسرحيون ومقاهي

الجزء الأول

بقلم/ بعيو المصراتي


مع الفنانين عيسي عبد الحفيظ، محمد إبراهيم، مفتاح الفقيه، الهادي البكوش، علي دعدوش ومجموعة من فناني المسرح الحر- طرابلس في العرض المسرحي "رحلة أبن دانيال" للكاتب المغربي المسكيني الصغير والمخرج المغربي يحي العزاوي سنة 1990، وكان أول عرض لهذه المسرحية لأول عرض علي خشبة المسرح الحر "سينما قابي" سابقاُ

إعتبر معظم الناس المسرح مكانا يذهب إليه المتفرجون للمشاهدة أو للمتعة أو للتسلية أو كوسيلة مـن وسائـل الكشـف عـن طبيعـة الإنسـان و التعـرف إليه، أما علماء الاجتماع فيرون بأنه وسيلة من الوسائـل التعليـمية والتثقيفية، تكشـف خفايـا المجتمع فتعمـل على تطهيـر النفـس البشريـة وتنقيتها وترفيهها، بطريقة غير مباشرة وذلك لعمـل التوازن داخـل المجتمع من جهة وداخل الفرد من جهة أخرى، وهناك من يرى بأنه المراءة التي تعكس واقعهم وتعبر عن أحلامهم وطموحاتهم بل وأحيانا انكساراتهم، وذلك من خلال العرض المسرحي أي "الفرجة المشهدية" والتي يمثلها الممثلون على منصة المسرح بتركيبته الكلاسيكية، والذي يعرف باسم "العلبة الإيطالية، أو بالطرق التجريدية الحديثة، أو أي طريقة من طرق العرض التي توصل الرسالة المطلوبة.

غير أن من يعملون في هذا المجال، ينظرون إلى المسرح بمعنى آخر، فالمسرح بالنسبة لهم يضم جميع العناصر التي تتضافر معا للوصول إلى (رؤية مسرحية) تحمل في طياتها كل العناصر المطلوبة، لاستكمال الصورة المتخيلة للوحة إبداعيه، يشارك فيها عدداً من الفنانين المبدعين.

ولنشأة المسرح حكاية أسطورية : في إحدى ليالي ذاك الزمن القديم، تجمّع رجال في مقلع للحجارة طلباً للدفء حول نار مشتعلة وتبادل القصص والأحاديث. وفجأة، خطر في بال أحدهم الوقوف واستخدام ظله لتوضيح حديثه. ومن خلال الاستعانة بضوء اللهيب، استطاع أن يُظهر على جدران المقلع شخصيات أكثر جسامة من أشخاص الواقع. فانبهر الآخرون، وتعرّفوا من دون صعوبة إلى القوي والضعيف، والظالم والمظلوم، والإله والإنسان البائد. وفي أيامنا هذه، حلت مكان نيران المباهج التي توقد في المناسبات الخاصة والأعياد الأضواء الاصطناعية، وجرى الاستعاضة عن جدران المقلع بآلات المسرح المتطورة (1).

كما يكشف المسرحي المغربي المخرج "الطيب الصديقي" فهمه للمسرح على أنه يبلغ الأفكار ويعتبر ضرورياً للتفاهم ولفهم العالم ..انه وسيلة لفهم الحياة ..إن المسرح نقطة لقاء الفنون الأدب، لغة الجسد ، الصوت ، الرقص ، الموسيقى ، الفنون التشكيلية ، الضوء ، الألوان ..انه لا يوجد في المجرد وإنما في عالم محدد : عالم العنف الحرب القمع العطش للحب كذلك (2) .

ويقول المخرج الإنجليزي "بيتربروك" : علينا أن نقوم بعمل يشبه وخز الشرايين بالأبـر ، (3) كما ويقول الكاتب المغربي "محمد مسكين" في مسرحية النزيف المسرح لحظة صحوا...... فلنصحوا ... ولنجعل رئة هذا الوطن تنزف ....تنزف (4). ويقول الكاتب العربي المغربي "المسكيني الصغير"، المسرح إلى جانب كونه فرجة وترفيه، هو فكر ومعرفة وفلسفة، يجمع كل المتناقضات، ويؤرخ لحالة اجتماعية، وهو لا يتجزأ من المعرفة في المدرسة والثانوية والجامعة، وازدهار المسرح رهين بالفرجات الأخرى (الموسيقى ، التشكيل، الشعر ،الرواية...) فإذا لم تزدهر هذه الفنون أصاب المسرح الوهن، وبات لا مبرر له في الحياة (5).

إذن للمسرح علاقة أبدية بالناس عامة، بالمشاهد، بالمتفرج، حيث يعتبره البعض كذلك من الطقوس الدينية القديمة، أو من الاحتفالات و التظاهرات الدينية والاجتماعية والشعبية، إلي الأسواق الشعبية كـ "سوق عكاظ" حيث الشعر والشعراء، ومنه إلي حكايا الناس وقصص البطولات عند الحكاواتي في المقاهي الشعبية كما في مسرحيات الكاتب السوري "سعد الله والنوس"*، والسامر و الراوي والحلقة لدى المخرج والكاتب الجزائري "عبد القادر علولة"**، والسرد الشعبي للتراث واستحضاره في الواقع المعاش، المسرح الثالث لدى الكاتب "المسكيني الصغير" ومسرح النقد والشهادة للكاتب "محمد مسكين" والحكايات والفرجة الشعبية للكاتب الليبي "البوصيري عبد الله"*** .

إن المشاهدين والمتفرجين وصانعي الحدث والمشاركين فيه، هم الوقود الدائم للمسرح وللمسرحين، من مؤلفين ومخرجين وممثلين ومبدعي "الفرجة" أو العرض المسرحي، حيث ينشأ بينهم تواصل وأخذ وعطاء، مما ينتج عنه كتابة وإخراج وتأسيس هذه الفرجة أو العرض المسرحي، كل هذا يحدث عندما تلتقي كل الأطراف في مكانا ما حيث يتناقشون فيما بينهم ويتبادلون أطراف الحديث، فهذا يفيد وهذا يستفيد، ومن هنا كان للمقاهي في كل أنحاء العالم تاريخ وباع طويل في هذا المضمار، حيث يلتقي فيها الفنانون والمسرحيون والموسيقيون والأدباء والكتاب والشعراء والمثقفون بجميع أنواعهم وبمختلف آرائهم و أفكارهم وأطوارهم، مع عامة الشعب وعلى كل المستويات وجميع شرائح المجتمع، فكم من مسرحيات وكم من كتب وروايات خرجت من أعماق هذه المقاهي، تحمل في طياتها طعم ورائحة القهوة ذات النكهة الفريدة، سطرها أدباء وكتاب خلدتهم كتب التاريخ عبر الأزمنة والعصور.

يقول "جان بول سارتر"” :عندما كنت أعمل مدرسا لم تكن لدي النقود الكافية لكل أموري الحياتية والمعيشية، لذلك كنت أعيش في فندق وشأني شأن جميع الكتاب والفنانين الفرنسيين، حيث كنا نقضي جل أوقات النهار في المقاهي المتناثرة هنا وهناك في باريس“ (6) ، وهكذا تحولت المقاهي إلي حالة أخرى أو لنقل نوع من المكاتب أو الدوائر بالنسبة للكتاب والأدباء والمسرحيون، الذين كانوا يكتبون ويتناولون طعامهم ويستقبلون ضيوفهم ويتعاقدون على أعمالهم في نفس الوقت، وبمقابل ثمن فنجان قهوة واحد كان المقهى يوفر لهم الدفء في أجواء باريس الشتوية الباردة.

وفي البداية علينا أن نوجز ولو بشيء مختصر حكاية هذا "المقهى"، الذي صال وجال في هذا العالم، المقهى في منشأ التسمية، هو المكان الذي يحتسي فيه الناس القهوة. ومع إن العرب عرفوا القهوة في اليمن منذ زمن بعيد، إلا إن المقاهي تأخر ظهورها في المدن العربية إلى القرن السابع عشر فصاعدا. فالمدن العربية طالما اكتظت بالخانات والحانات والمقاصف والملاهي، لكن المقهى بصورته التي استقر عليها لاحقا والمعروفة لدينا، ظل غريبا عن المدن ومجتمعاتنا العربية.

وحسب ما هو منقول عبر التاريخ وما دونه الكتاب بأن بداية أولى المقاهي في العالم كانت في إسطنبول في سنة 1554 م، علي أيدي اثنين من السوريين ....وفي سنة 1558، عندما تزايد عدد المقاهي، قامت حاشية السلطان وتابعيه بتقديم النصح لسلطانهم، فقام بإغلاقها بعد أن تحولت إلى نواد للمثقفين والكتاب والأدباء، يناقشون فيها فساد الحكم وينتقدون السلطان جهاراُ وعلناً. ولم يتردد السلطان مراد الرابع، في أوائل القرن السابع عشر، في إصدار فرمانه المشهور الذي قضي بإعدام جميع من بتعاطي القهوة والتبغ والأفيون (7).

إذن كانت المقاهي ومنذ بداياتها، مرصودة لذم السلطات وانتقادها، ولممارسة كل أنواع النقد السياسي والمجاهر به، ولاجتماع الكتاب والأدباء والمثقفين والسياسيين مع من حولهم من عامة الناس. وللمقاهي دور أخر في تمضية أوقات الفراغ "وما أكثرها في بلادنا العربية" وإطلاق الشائعات والتسلي بالنميمة والقيل والقال، ومع مرور السنين والأعوام علي هذه المقاهي العربية أصبح الجزء الأخير لوظيفتها هو السائد، بعد أن أطبقت السلطات الحاكمة في كل ربوع الوطن العربي، قبضتها علي الكتاب والأدباء والمثقفين.

ومن خلال هذه الورقة، سنتطرق لبعض المقاهي الأدبية في الوطن العربي، والتي كان لها الدور البارز في التقاء، الفنانون من مسرحيون وكتاب وأدباء ومثقفون وشعراء وموسيقيون حيث سطرت إبداعاتهم تاريخ هذه الأمة جيلاُ بعد جيل.

ولتكن البداية، من مدينة طرابلس الغرب، حيث كان عقد الستينيات هو فترة نمو وتطور المشهد الثقافي والأدبي و المسرحي في ليبيا، وكان لهذا تأثيره علي بروز المكتبات الثقافية وثقافة الكتاب فتجد مختلف الكتب والمجلات والصحف اليومية العربية والإنجليزية فيها، وكان من أبرز معالمها في هذه الفترة، المقاهي الأدبية الثقافية والسياسية، حيث يلتقي فيها الأدباء والكتاب والفنانون، من مختلف الأعمار والأجيال، يتناقشون ويتحاورون ويتشاكسون، في كل أمور الشأن الثقافي والاجتماعي والسياسي، طارحين أفكارهم وأرائهم بكل حرية مع المواطن والمشاهد والحاضر في تلك المقاهي، فمن هنا كان التواصل والتلاقي والفائدة التي عمت علي الجميع، حيث تبادل الأخبار وآخر المستجدات على الساحة الأدبية، فعلى المثال:- هذا الكتاب صدر حديثاُ عن طريق دار الفرجاني للنشر والتوزيع، وهذه المسرحية تعرض علي ركح مسرح الغزالة، وهناك علي مسرح الحمراء حفل موسيقي غنائي، وفي صحيفة "الحقيقة" مقال للصادق النيهوم (الرمز في القرآن)، حيث يثار جدلاً واسعاُ بين الأدباء والكتاب والصادق النيهوم من جهة، وبين علماء الدين والمفكرين من جهة أخرى، وكل هذا الجدل وبالرغم من اختلاف الآراء والتوجهات، إلا أننا نجده يحمل في طياته أخلاق النقد والحوار بين الكتاب والصحافيين والمثقفين وبين عامة الناس.

ومن بين تلك المقاهي الثقافية الأدبية المعروفة في تلك الفترة، مقهى الخضراء الواقعة بالقرب من ميدان الغزالة، حيث المكان المفتوح والأرض الخضراء تحوطها من كل جانب، والبحر يرسل نسائمه ينعش بها رواد هذا المقهى، من فنانين وأدباء وكتاب فيزيدهم طاقة إبداعية يساهمون بها في إثراء الحركة الثقافية والفنية، وخاصة فنانو المسرح المجاورين لهذا المقهى، بمسرح الغزالة حيث مقر المسرح القومي بطرابلس، فكان إعداد المسرحيات والتدريبات والعروض المستمرة تأخذ مكانها بالمسرح، وفي المكان الثاني "مقهى الغزالة" يكون النقاش والحور والنقد البناء لا الهدام بين جماهير الفن ومثقفيه وكتابه ومبدعيه، فكانت الحوصلة بإنتاج مسرحي بقي في ذاكرة المسرح الليبي، علي مر العقود والأعوام. أمثال راشمون والزير سالم وأهل الكهف وشركان في بيت زارة و "تاجر البندقية" و"كاليجولا" و "عطيل" للمخرج المرحوم الأمين ناصف وبطولة المرحوم الفنان شعبان القبلاوي التي أجريت البروفه النهائية ولكن لم يحظي الجمهور بمشاهدتها لظروف ومتغيرات سياسية حالت دون ذلك، وغيرها من الأعمال المسرحية والفنية التي رصدت الحالة الثقافية والاجتماعية والسياسة في ليبيا في تلك الفترة. إنها صورة جميلة ورائعة لهذا الحضور الثقافي والأدبي الذي انعدم بالكامل في وقتنا الحاضر.

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصــادر:

1- حكاية نشأة المسرح عن موقع ويكيبيديا.

2 - المخرج والكاتب المغربي الطيب الصديقي "تجربة المسرح بالمغرب" مجلة الثقافة المغربية: يونس الوليدي "استلهام التراث في المسرح الهاوي المغربي" مايو 1999.

3 - بيتربروك : مخرج مسرحي وسينمائي، بريطاني الجنسية ولد في لندن، فرنسي الإقامة، مؤسس المركز العالمي للأبحاث المسرحية في باريس، ومدير فرقة مسرح ( البوف دي لورد ) التجريبية حياته. بدأت حياته المسرحية منذ عام 1946 عندما قدم للمسرح والسينما أعمالا تلو الأعمال، وصلت إلى أكثر من ستين عملا مسرحياُ.

4 - محمد مسكين : ناقد وكاتب مسرحي، مغربي الجنسية، أحد أهم مؤسسي مسرح النقد والشهادة في سبعنيات القرن الماضي بالمغرب، له عدت مسرحيات من تأليفه وله بحوث ومؤلفات في المسرح، أحد مؤسسي فرقة المسرح العمالي بوجدة {المغرب}، قدمنا له بالمسرح الحر، مسرحية "النزيف" 1984 ،توفي سنة 1987 بأزمة قلبية.

5 - المسكيني الصغير : باحث وناقد وكاتب مسرحي، مغربي الجنسية، مؤسس المسرح الثالث {المسرح الفقير} بالمغرب في سبعينيات القرن الماضي، له عدت مؤلفات مسرحية تنظر وتدعم المسرح الثالث، له كتب وبحوث في شتي فروع المسرح، قدمنا له بالمسرح الحر – ليبيا مسرحية " رحلة أبن دانيال " 1990 و له عدت أعمال مسرحية أخرى قدمتها فرق من ليبيا بعد هذا التاريخ.

6- جان بول سارتر : {1905 – 1980} ، فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي فرنسي، بداء حياته العملية أستاذاُ، منح جائزة نوبل للأداب سنة 1964.

7 - جريدة القدس العربي 15/7/2002.

* سعد الله والنوس : {1941 – 1997}، كاتب مسرحي سوري، قدمت مسرحياته علي خشبات مسارح دول

الوطن العربي، من أهمها "الملك هو الملك"، "الفيل ياملك الزمان"، مسرحياته تحاكي السلطة و المواطن.

** عبد القادر علولة : كاتب ومخرج جزائري، ولد سنة 1929 وأغتيل سنة 1994 في موجة الإغتيالات بالجزائر

في تلك الفترة، كتب وأخرج العديد المسرحيات بالهجة العامية، أحد مؤسسي المسرح الوطني بالجزائر 1993،

ومؤسس مسرح الحلقة وله بحوث وتجارب مسرحية في هذا المسرح، إلتقينا به سنة 1991 عندما زار ليبيا لتقديم

مجموعة عروض مسرحية، وأشهرنا تؤمة بين المسرح الحر- طرابلس وبين فرقته من أجل تقدبم الأعمال

المشتركة.

*** البوصيري عبدالله : كاتب مسرحي وباحث ليبي، له العديد من الكتب والمؤلفات المسرحية، من أهم مسرحياته

"الغربان وجوقة الجياع"، والتي تحصلت علي الترتيب الأول في مسابقة التأليف المسرح سنة 1972 ، إستحضر

التراث و الحكايات الشعبية في أعماله، ومنها مسرحية "بضربه واحدة قتل عشرة".

ليست هناك تعليقات: