الأربعاء، 10 مارس 2010


المسرح العربي في المهجر

عبد الجبار خمران

- 1-

هل هناك مسرح عربي بالمهجر؟ أم أن هناك فقط مسرحيون عرب لهم تجارب مختلفة هنا وهناك خارج رقعة وطنهم الأصل؟ وهل من تجانس جمالي وفكري بين المسرحيين العرب المغتربين، يمكن معه استقصاء خصوصية مسرحهم "العربي" خارج أوطانهم ؟ أم أننا نقصد بالوصف تلك العروض القادمة من الخارج و/أو تعرض بمختلف خشبات ومهرجانات الدول الغربية، ولما لا العربية؟ وماذا لو كان الكاتب المسرحي عربيا ويكتب بلغة أجنبية ؟ أو أن المخرج عربيا والممثلون من جنسيات غربية ؟ في واقع الأمر هناك أسماء مسرحية عربية من أجيال مختلفة أصيبت بلعنة المنفى الاضطراري، و أخرى هاجرت للبحث عن أفق آخر أكثر رحابة أو- ربما- أكثر خذلانا [أثثت فضائه عوامل قسوة مختلفة] ؟ وهناك أيضا من غادر موطنه وهو طفل، أو وُلد لأبوين مهاجرين، ليحمل انتمائه مظلة لكتاباته المسرحية أو لقراءاته الإخراجية أو لأداءاته التمثيلية والإبداعية عامة، داخل المجتمعات التي يعيش بها.

والسؤال الذي يمكن طرحه في هذا المضمار: هل محددات المنفى وتجلياته كما عاشها مبدعو المهجر السابقون؛ و التي وصلتنا وتعرفنا عليها من خلال سيرهم وكتاباتهم، هي نفسها التي يعيشها حاليا مختلف مبدعي الوطن العربي خارج أوطانهم ؟ للشاعر المغربي المقيم ببلجيكا طه عدنان إلتفاتة ذكية عندما تحدث عن ما سماه "أدب إقامة" لأفراد يقيمون ببلدان ربما لا يعتزمون مغادرتها، ومنهم من يبدع بلغة البلد الذي يقيم به حتى. واقتباسا أقول أن المسرحيين العرب المقيمين خارج بلدانهم ينتجون "مسرح إقامة" وليس "مسرح مهجر أو منفى" بالمعنى التقليدي الذي يقصد من التعبيرين.

انقضى ذلك الزمن الذي كان فيه المهاجر لا يعرف المستجدات التي طرأت على بلده أو مدينته أو قريته إلا بعد عودته. الأخبار تطرق باب بيتك وأنت مستلق على أريكتك في غربتك، بل تصلك الأخبار- إن أردت- على هاتفك المحمول من أعتى الفضائيات وأشهرها أينما كنت.

فالإنفجار الإعلامي و المعلوماتي وانتشار الفضائيات و الهواتف والحواسب الثابتة و المحمولة و الأنترنيت الحاضنة، جعل العالم بحق أصغر من قرية؛ يتابع سكانها أخبار بعضهم البعض في زمن عولمة غير مسبوق، وما يحدث في هذا العالم / القرية يهمنا جميعا، شئنا أم أبينا. فانهيار الأسهم ببورصة نيويورك تمس تداعياته حياة أبسط فلاح بأسيوط، كما أن اندلاع حرب بالخليج قد تحرم صانعا تقليديا بأحد أحياء مراكش السياحية قوت أبنائه اليومي. إنها لعبة إعلامية جعلت المبدع المهاجر يوظفها ويستقي منها أدوات لعبته المسرحية والإبداعية بشكل عام.

- 2-

إذا كان فعل الكتابة الأدبية عملا فرديا، تتحكم فيه اواليات الذات المبدعة في بعدها الفردي، حيث العزلة والورقة البيضاء كل ما تحتاجه تقنيا ذات الشاعر والناثر، الروائي والمفكر.. فإن فعل المسرح عمل جماعي معقد تتحكم فيه آليات مختلفة، أقلها تواجد مكثف ومشاركة جسدية داخل حيز زمكاني محدد، يجب احترامه حضورا؛ حفظا؛ مساهمة و خلقا..انسجام جماعي تتحول فيه الذات إلى حالة إبداعية تتقاسمها مجموعة من الكائنات المسرحية تحت مظلة ورشة هي منبع للمنجز المسرحي. والمسرح من حيث هو لعب جماعي، تبرز واحدة من صعوباته التي يتقاسمها المسرحيون المغتربون مع غيرهم من المبدعين، لكن بشكل مضاعف وبتحدي أكبر.

فإذا كان أدباء "المهجر" السابقون وأدباء "الإقامة" اللاحقون قد تمتعوا بأن لم تتطلب موهبتهم أكثر من صب أحاسيسهم و أوجاعهم وكل ما يخالجهم على الورق..وما أدراك ما الورق. فالمسرحي عليه المسير في درب مسرحه الطويل ، المحفوف بصعابه الخاصة لأجل صياغة ركحية تتجاوز الورق والناشر والقارىء إلى الفضاء والجمهور.

قد يتساءل سائل عن كون النص المسرحي أيضا يلتقي كفعل كتابة مع الأجناس الأدبية الأخرى، وبالتالي ينطبق عليه ما ينطبق عليها من حيث هو كتابة ؟ بطبيعة الحال هموم المبدع واحدة والفرق من حيث الممارسة ربما يكمن في الدرجة لا في النوع . وبالرغم من أن الانتباه النقدي للمسرح عرضا مرئيا على الخشبة - كما يعبر سعيد الناجي في كتابه قلق المسرح العربي - هو وليد الأزمنة الحديثة بشكل عام..و بالرغم أيضا من كونه غالبا ما يقع في قلب التحولات التي تعرفها نظرية الأدب، وذلك باعتباره نصا مقروءا.

وجب التذكير هنا بأن جذر كلمة مسرح اليونانية thèatron يدل في أصله على الحيز المكاني "النصف دائري" الذي كان يشغله الجمهور لأجل مشاهدة ومتابعة ما يجري أمامه، وبالتالي فالمسرح فضاء في أساسه؛ عرض مرئي في بنائه. ولا تكتمل دائرة منجزه كتابة وورشة وإخراجا وتمثيلا..الخ إلا بتقديمه داخل فضاء أمام أناس بصفتهم مشاهدين..وهذا مايؤكده بيتر بروك أيضا بتعريفه الشهير لشروط تحقيق فعل من أفعال المسرح ، والذي أوجزه في " أن يسير إنسان عبر مساحة فارغة في حين يرقبه إنسان آخر". إذا قدرالمسرحي أن يبحث عن فضاء الورشة وفضاء العرض أينما حل و ارتحل. سأحاول في هذه الورقة أن أقدم ثلاث نماذج لمسرحيين عرب يقيمون خارج أوطانهم، وسيتعلق اهتمامنا هنا بكاتب ومخرج وممثل :

- الكاتب المسرحي قاسم مطرود المقيم ببريطانيا.

- المخرج اللبناني وجدي معوض الكندي الجنسية.

- الممثل العراقي أحمد شرجي المقيم بهولندا.

كاتب ومخرج وممثل ولو أن القطعية تنتفي في حالات خاصة لمثل هذه الحدود، غير أنهم لا محالة خارج حدود أخرى..حدود وطن حملوه معهم، وجدانا مرتبطا بطفولة و ومضة حب ؛ زوادة حنين وأغنيات و وجوه أليفة..إنه الوطن خامة الإبداع ، ومنه تنهم الرؤيا .. وظروف غربة معطاة هي أيضا بدورها مصدر إلهام وتبصر.

- 3-

رغم ما سبقت الإشارة إليه بخصوص النص المسرحي واستثنائية الكتابة الدرامية استطاع عدد من الكتاب المسرحيين أن يصلوا بنصوصهم وعبر الورق فحسب إلى مهتمين ونقاد وقراء.. نصوص استطاعت أن تشيد صرحا من متعة القراءة..وأن تبعث على الرغبة في إخراجها ذهنيا، وساعدت بحرفية صانعها على تصور الفضاءات المقترحة والمشاهد المتعاقبة باسترسال لا يخلو من تلقائية وسلاسة مع عمق الطرح والمعالجة.

ومن هؤلاء الكتاب، المسرحي العراقي المغترب المقيم ببريطانيا حاليا قاسم مطرود، فنصوص هذا الأخير تسبح في فضاء تصوري ولذة مسرحية تخولها تمكنه من أدوات وتقنيات الكتابة الدرامية، ومن اهتمامه بتفاصيل العملية المسرحية في تشكلها الركحي. الكلمة في النص المسرحي بالنسبة لقاسم مطرود صورة، ونصه يُكتب لكي يفجر القدرة الإبداعية لإنجاز وتهيئة العرض المسرحي.

مارس الإخراج وتعاطى النقد ووجد في داخله كاتبا مسرحيا، وإلمامه هذا يعود إلى موهبته و إلى الصقل من خلال دراسته بمعهد الفنون الجميلة ببغداد، كما أنه التحق فيما بعد بأكاديمية الفنون الجميلة عام 1994 والتي تخرج منها عام 1998 في اختصاص الفنون المسرحية قسم الإخراج المسرحي.

بعد هجرته إلى هولندا حصل على دبلوم في مجال إعداد وتقديم وإخراج البرامج التلفزيونية من أكاديمية "هلفرسم". وهو يشغل رئيس قسم الفنون المسرحية في الجامعة الحرة بهولندا.

له أكثر من عشرين مسرحية منها : "طقوس وحشية" ؛ "للروح نوافذ أخرى" ؛ "رثاء الفجر" ؛ "الجرافات لا تعرف الحزن" ؛ "عزف على حراك الجمر" ؛ "دمي محطات وظل" ؛ "هروب قرص الشمس" ؛ "نشرب إذا" وغيرها كثير والتي ترجم بعضها إلى اللغات الهولندية والفرنسية والعبرية. و مسرحياته قدمت كعروض بهولندا وبالعراق وبعديد من الدول العربية.

ويرى قاسم مطرود - بخصوص الموضوع الذي يهمنا هنا - " بأن ملامح مسرح المنفى غير واضحة حتى الآن، في حين المسارح التي تقدم على أرضها الأصلية أكثر ديناميكية ونشاطا من مسارح المنفى، فبقدر ما تتمتع هذه الأخيرة بالحرية التامة إلا أنها تفتقد الدعم الكافي، إذ ليس هناك مؤسسات أو منظمات كافية [...] لذلك فالفنان في المنفى يعمل بجهود مضاعفة."

وكتابات قاسم مطرود تتراوح بين قسمين من الأزمنة، يتوازيان حينا و يتقاطعان أحيانا كثيرة : زمن الوطن وزمن الغربة. كما تتخللها مفردات الموت؛ الغياب؛ الانتظار؛ السفر والقبور..الخ

- 4 -

من الأسماء المسرحية العربية الأصل التي برزت في السنوات الأخيرة في المجتمع الغربي نذكر الكاتب والمخرج والممثل اللبناني الأصل والكندي الجنسية وجدي معوض.

هذا المسرحي الذي صخبت به خشبات المسارح الفرنسية إلى الحد الذي أختير معه ليكون رئيسا لمهرجان أفنيون ، تكريسا لتقليد سنوي اتبعه مديراه فانسون فودريي و أورتونس أرشامبونت منذ سنوات.

وجدي معوض من مواليد بيروت 1968 خرج من لبنان هربا من الحرب الأهلية اللبنانية وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، توجه إلى فرنسا فكندا التي أكمل بها دراسته عام 1991 .

له ما يناهز عشرين مسرحية نشرت بين فرنسا وكندا، و منها رباعيته : "ساحل" ؛ "حرائق" ؛ "غابات" ؛ "سماوات" هذه الأخيرة التي سيقدم عرضها الأول بمهرجان أفنيون صيف السنة الحالية.

ومن خلالها يثير الكاتب موضوعا حساسا يتجسد في علاقتنا بتقاليدنا وموروثاتنا الفكرية والثقافية ، ليس الظاهر منها بل المبطن والذي تتناقله الأجيال وكأنها في حالة إغماء دون تمحيص أو تساؤل..ليترتب عن ذلك صدامات بل كوارث. وقد تغوص بك الأحداث عميقا، لتلامس عمق النفس البشرية في صراعها وهي تبحث عن هويتها و أصلها ونسبها، وعمق التاريخ كمشترك جمعي، مرورا بالحروب وسقوط جدار برلين وغيرها من الأحداث التاريخية .

أما جماليا فعرض "غابات" مثلا على "مسرح 71" بباريس يجعلك تتحقق من توظيف معوض للغة مسرحية شفافة ذات نفس ملحمي.. فالفضاء والممثل بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها النص المسرحي ، وشعرية الحوارات من شعرية هندسة سينوغرافية مدروسة. ولا ضير في أن تمسح أحداث المسرحية ومن خلال تنقيب بطلتها قرنا من الزمن.

في ما ورائية اشتغالاته و اختياراته الإخراجية ينتصب مفهوم المختبر كينبوع لتشكل منجزاته الجمالية. وهو نفسه يصرح أن ارتجالات الممثلين كانت مادة خام لرفع معمار العرض المسرحي، كما أن مختبره الشخصي ومختبر تجاربه تؤثثه مفردات الحرب والمنفى والعائلة.

- 5-

من المسرحيين العرب أيضا المقيمين خارج أوطانهم نذكر الممثل العراقي أحمد الشرجي المقيم بهولندا - والذي أخبرنا بأنه يفكر في الاستقرار بالمغرب- وقد اخترته لما يصلنا من صدى إيجابي خلفته أعماله، بكل من هولندا أو بالبلدان العربية ، وأيضا لأنه ممثل له تصوراته للأداء التمثيلي و للممارسة المسرحية، و التي يجربها ويلقنها داخل ورشاته التكوينية التي يشرف عليها. هذه التصورات والتجارب التي يسطرها بمقالات تنم عن صفاء ذهني لممثل يمتلك أدواته ويعرف كيف يحول اشتغالاته وهمومه المسرحية والثقافية إلى معرفة ومعرفته إلى ممارسة وتجربة.

أحمد الشرجي من مواليد بغداد عام 1968، تخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1991 ومن كلية الفنون الجميلة عام 1996 . درّس بالمعهد بصفة محاضر.غادر العراق منذ 1996ليستقر به المقام بهولندا منذ 1998.

حصل على العديد من الجوائز وشهادات التقدير في التمثيل. اشتغل مع كل من المسرحي بدري حسون فريد و محسن العزاوي وحيدر منعثر وغيرهم. كما أنه اشتغل بالإخراج أيضا حيث أعد وأخرج "القيامة" و"القيامة الثانية" كتجربة لمسرح التعزية بهولندا، وقدم مسرحية "بعيدا بانتظار الضوء" لضياء سالم، و "الجرافات لا تعرف الحزن" لقاسم مطرود، وله تجارب كممثل بالتلفزة والسينما أيضا.

وبهولندا إشتغل مع المخرج العراقي المغترب أيضا رسول الصغير كممثل بعرض "فاقد الصلاحية" باللغة الهولندية، والذي قدم بمهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة.

ليشتغل فيما بعد مع المخرجة الهولندية أنا ماريا ديروان بعرض "سالوتا"، كما شارك باحتفالية "شعراء على الأشجار" مع المخرجة باربا راشيل. واشترك أيضا بالفيلم الوثائقي "بعثة الأمان" للمخرج السينمائي الهولندي ريمون خيلنك. وكذلك بالفيلم القصير "البولدوزر" لمحمد الدراجي.

إلى جانب قسوة الغربة هناك هموم الوطن التي يحملها أينما ارتحل - يقول أحمد شرجي - " الهجرة تفرض عليك واقعا جديدا عليك أن تتعايش معه وتعمل به [...] عليك تقبل التعايش مع الآخر وأن تذهب إليه ولا تنتظر منه المجيء إليك[...] لكن دون أن تتحول إلى مسخ، بل تتقبل وضعك الحالي مع الحفاظ على ما تريد الحفاظ عليه من خصوصيتك الاجتماعية."

أما بخصوص المعوقات والتحديات التي تواجه الشرجي كممثل ومسرحي فهو يصرح : "لعل أكثر المعوقات هو الدعم المادي واللوجستيكي اللذان يصطدم بها الفنان، فرغم وجود الكثير من الجهات الداعمة للثقافة داخل هولندا، يبقى نوعية خطابك ولمن توجهه وبأية لغة؟؟ [...]وكذلك جهلنا بالمثقف الهولندي والمسرحي منه خصوصا، من المعوقات أيضا".

إنه طرح مختصر لأسئلة تستحق منا وقفة أكبر وانتباها أعمق، وتقديم لثلاثة مبدعين [كاتب ومخرج وممثل] تختلف تجاربهم في جوانب وتأتلف في أخرى، يستحقون من النقد المتابعة ومن المهتمين الإفادة والاستفادة ومن الجهات المعنية التشجيع على المسير والاستمرارية وعلى المزيد من العطاء الثقافي ومن التجارب والمختبرات التي تجاهد لبلورة رؤيا متجددة يجمعها الهم المسرحي وتحقيق تراكم كيفي وليس كمي فقط ، لأجل المساهمة في مشهدنا المسرحي العربي وتعبيد الطريق للمجايلين وللشباب المسرحي من الأجيال القادمة.

عبدا لجبار خمران

مسرحي مغربي مقيم بباريس

عن موقع مسرحيون

ليست هناك تعليقات: