الجمعة، 12 مارس 2010


حازم كمال الدين.. يسقط جدران المسرح الثلاث المتبقية

إذا كان بيرتولت بريخت رائد المسرح الملحمي ومنظره قد أسقط الجدار الرابع في المسرح،، سعياً إلى تحفيز الجمهور على إمعان النظر وإعمال الفكر وداعياً إياه إلى تكوين وعياً خاصاً به تجاه مايراه، فإن الدكتور حازم كمال الدين المخرج العراقي المغترب والمقيم في بلجيكا منذ ثمانينات القرن الماضي قد أتى في مسرحيتة الأخيرة: (عند مرقد السيدة) على كل جدران المسرح المتبقية من جذورها وقواعدها جاعلاً من المشاهد شريكاً إبداعياً وقسيماً لعناصر العمل المسرحي الأخرى.

فشكّل حازم كمال الدين من الجمهور وباقي مفاصل العمل وحدة متكاملة في انسجام مذهلٍ فيما عمد إلى تفعيل لغة الجسد لدى الممثلين بشكل ملحوظ، واستثمار توتراته وانفعالاته، لأن الجسد يمتلك طاقات لا يمكن ترجمتها إلى إطر وصيغ كلامية، وكذلك فإنه أي الجسد يشتمل على خصوصية لها مكوناتها الخاصة لتشكيل وحدة حياة قائمة بذاتها، ذات سلوك متفرد ينجم عنه ردود أفعال لا يمكن حصرها في إطار محدد، وبالنتيجة فهو فعل مواز للعقل وليس لاحقاً به لأنه يتخطاه في كثير من المواقف المتأزمة والحرجة.

ورغم ما هو معروف عن حازم كمال الدين في تركيزه على القدرات الجسدية وتعبيراتها استطاع في هذا العمل أن يخلق توازناً بين ماهو بصري وسمعي، يصرياً اعتمد على الإيماءة وحركة الجسد المتقنة بطابعها التجريدي الذي يهز الروح و سمعياً من خلال الأداء النصي البارع للمثلين، خصوصاً المنلوج الداخلي المدهش الذي أدته الفنانة البارعة "تانيا بوبه" التي تألقت في التعبير وتصاعدت في أداء دورها مستنطقة الروح لدرجة تجعلك تدرك أنك تسمع صوت الروح الحقيقي بكل خلجاتها وإرهاصاتها.

لقد أدرك حازم كمال الدين في هذه المسرحية وغيرها من الأعمال التي قدمها أن الحداثة لاتعني الأطر الحديثة التي تبناها الآخرون ولو في اللحظة الأخيرة من عمر الزمن، لأن ذلك بداهة يعني الوقوع في مستنقع التكرار والتقليد ولوك ما أتى به الغير، وإنما الحداثة قي نظره تعني ضمن ماتعنيه ابتكار الصيغ الغير مطروقة والسياقات النافرة وتوظيف التقنية ببعدها التجريبي الحقيقي بنزوع تجديدي يكرس الجمال بانزياحات تغريبية وأشكال تعبيرية جديدة لإضاءة العلاقة القائمة بين النص والعرض بغية تحقيق الدهشة والإبهار للمتلقي كردة فعل أولية تلقيه في خضم الفعل الحقيقي للإبداع وأزمته الخلاقة.

الشي الآخر الذي برع فيه حازم هو إلغاء إمكانية الحدس عند المتلقي، لأنك مهما كونت من تصور أولي حول المسرحية وطراز أخراجها، ينسفه لك المخرج منذ اللحظة الأولى لشروع المسرحية حتى آخرها، وهذا ماحصل لي بالضبط فعندما ذهبت إلى صالة مسرح المونتي حيث تعرض المسرحية هناك كنت قد وطنت نفسي على مشاهدة شيء غير مألوف على خشبة المسرح، مؤسساً ذلك على خلفية معرفتي بقدرات الدكتور حازم كمال الدين الخارقة في مجال الإخراج المسرحي، ولكنني لم أكن أتوقع على سبيل المثال لا الحصر أنني سأجلس على علبة كارتونية بدلاً من كرسي المسرح، لأن المخرج كان قد رفع كراسي الصالة وبعثر مجموعة كافية من العلب الكارتونية لعدد الجمهور على أرضية المسرح لكي يجعل حسب اعتقادي ذهنية المشاهد ديناميكية في التفكير قبل مشاهدة المسرحية، فابتداءاً سيكون المشاهد في مواجهة التساؤل الأولي أين سيجلس؟ ومنذ لحظة ما قبل الشروع يكون المتلقي شريكاً فاعلاً من خلال خلق حالة الإستعداد النفسي والذهني للمشاركة بحقل التجريب الذي سيفتتحه المخرج باتجاهات مفتوحة لاضفاف لها.

وبعد أن تدرك أن المسرحية قد بدأت تدخل في حيرة أخرى هي بأي اتجاه ستتجه وأنت ترى الممثلة "تويكي بوس آوت" بقدراتها الفائقة وهي تؤدي دور "يوريديس فيرمانس" مراسلة التلفزيون البلجيكي في بغداد بمراس ملحوظ وحيوية طافحة لحد تضطرك على عدم إطباق جفنيك كي لاتفوتك حركة ما من حركاتها المتقتة بشكل حصيف، أو لربما تجعلك تخشى أن لا تدرك حرفاً من لغة جسدها العذبة الرشيقة. وفجأة وبدون مقدمات ينداح صوت أوبرالي تحسه يملأ فضاء أذنيك وكيانك كله قبل فضاء الصالة، هذا الصوت يأتيك من الخلف لتدرك أن لا اتجاه محدد لجلوسك إذ ليس هناك بقعة محددة لحركة الممثلين، يتعاظم هذا الصوت والذي هو صوت الروح أدته بشكل ملفت للنظر المغنية الأوبرالية والراقصة "إيمانويللا سخوت آرتس" حيث مسحت كل أرضية المسرح بجسدها اللدن وبحركات غرائبية إلا المنصة التي ظلت مسدلة الستائر حتى نهاية العرض.

وباعتقادي أنها رسالة ذكية من حازم موجهة إلى عبقرية المسرح الألماني بريخت منظر المسرح الملحمي مفادها أن لا حاجة لإسقاط الجدار الرابع بعد، إذا كان بالإمكان نسف كل جدران المسرح من القواعد. من المعلوم أن السينما قد تساعد في سبيل المثال بما تكتنفه من تقنيات وتكنيكات على إظهار الروح في بعض المشاهد، أما أن يتم تجسيد هذه الفكرة على المسرح فتلك مجازفة فنية سبر أغوارها حازم كمال الدين عندما عبر عنها بامرأة ذات وجه مبهم بدون ملامح تتلوى بشكل مذهل وفق ميلودي جسدي يعتمد إشكالية التغريب داخل المكنون العميق لروح الإنسان والحوارية الأزلية بينها بين والجسد.

وبضربة معلم كما يقول المثل المعروف يسوق المخرج الجمهور إلى فوق المنصة وكأنه يدعوهم لافتضاض سر ما، وهناك أي على المنصة المختفية وراء ستارة داكنة لم تتزحزح إلى نهاية العرض تكتمل فصول القصة، حيث سترى صندوقاً مربع الأضلاع وبإرتفاع يزيد على المترين قليلاً تغمره حبيبات فلينية حد النصف تقريباً. وتفاجأ بتدلي سماعات الأذن من سقف المسرح إلى مقربة من رأس كل فرد من الجمهور الذي يضطر إلى الإحاطة بالصندوق، وعبر استخدام سماعات الأذن تصغي إلى المفصل الحيوي والمهم من المسرحية من داخل الصندوق الزجاجي، وما أن تلامس السماعة أذنيك حتى يأتيك حسيس كأنه حفيف أشجار في غابة برية بكر.. تخال أن وراء هذا الصوت المشوب بالقلق والترقب أمراً ما سينبثق وبالتحديد من بين قطع الفلين التي توحي وكأنها سايتوبلازم بيضة كائن أسطوري تحاول التفقس، يخالج هذا الحسيس تنهيدات وتأوهات لأمرأة تحاول الخروج من تحت الركام إلى النور.. تزداد الحركة وكأنها مخاضاً عسيراً وإذا بساق عارٍ يظهر من بين الحبيبات ومن ثم بالتدريج تخرج بقية أجزاء الجسد مع منلوج داخلي تسمع من خلاله نشيج الروح والعبرات الغائرة في النفس الإنسانية لتفصح عن ذات المرأة التي تعددت تمظهراتها بدءاً بسيدة الوركاء التي تحدت جلجامش وجبروته مروراً بكل النساء ذوات الأثر المتميز في التاريخ القديم والحديث مثل نزيهة الدليمي وبنت الهدى وصولاً إلى النساء اللائي شكل موتهن علامة فارقة في الوقت الراهن مثل هند إسماعيل ولقاء عبد الرزاق وأطوار بهجت.

وتتحدث سيدة الوركاء عن تجلياتها كما ورد في نص "عند مرقد السيدة" الذي كتبه حازم كمال الدين: "كان صنمي يلتمع. تمثال أكبر من أي تمثال شاهدته في حياتي. تمثال يشبه شمعة طويلة نحيفة منتصبة يفوق طولها كل شيء. الشمس تعكس صورتي في السماء وتنشر ظلي في الأرض. لم تصدق عيناي ما يحدث، لذلك سقطت دمعة على خدي والتمعت على خد الصنم. مبحرة في مشحوف، متوغلة في أعماق المياه أرى نساء، كاهنات يتوغلن في أعماق بحر القصب. أراهن يعتلين منبرا مصنوعا من ردائي العريض. أراهن يرتّلن أدعية ويسردن واقعة بطريقة مشبوبة، هي واقعة حياتي! يجوّدن نثرا ويغنين شعرا، ولي وعني يكتبن، يمزقن أثوابا ويلطمن. بينما هنّ يغذنّ السير والتجوال بعيدا وصورة المشحوف تبتعد وتتصاغر في أعماق بحر القصب".

وتواصل سردها بإحساس مرهف: "انتقلت هذه القصة حول العالم أجمع فجاء البشر من كل مكان وجاء الناس يبحثون عن النور في الدمعة. وكما لم يحدث من قبل ابداً جاء البشر، طافوا في دوائر وصولا الى التجليات".

وقد أدت هذا الدور ببراعة ملفتة للنظر الفنانة البلجيكية المعروفة "تانيا بوبه" التي جعلت العيون تتسمر نحوها بتوق لا يخالجه تراخي،والآذان شرعت نوافذها على القلب بكل هيبة وسكينة.

في الوقت الذي بقيتا كل من الفنانة "تويكي بوس آوت" والفنانة "إيمانويللا سخوت آرتس" في المكان الذي يجب أن يخصص للجمهور، وكانت الستارة تشكل برزخاً بين العالمين وهما يؤديان دورهما دون توقف لاستكمال فصول المسرحية التي تمنيت لو تم عرضها في العراق أو في أي دولة عربية لكي ينهل من معينها الإبداعي الفنانون والجمهور على حد سواء. ومن الجدير بالذكر إن مسرحية "عند مرقد السيدة" التي قدمت على مسرح المونتي في مدينة أنتويربن كانت قد رعتها إنتاجياً جماعة زهرة الصبار بالتنسيق مع مركز المونتي للفنون وبدعم من وزارة الثقافة البلجيكية وبنك سيرا.

وبهذه المسرحية الباذخة النجاح التي تعد بحق نجمة متلألأة في سماء المسرح يحاول حازم كمال الدين وضع بصماته بحرفية عالية لاستكمال مشروعه المسرحي المتميز الذي واصله منذ أكثر من عقدين من الزمن وفق رؤيته الخاصة تأليفاً وإخراجاً.

للكاتب ضياء الجنابي / موقع الفوانيس

ليست هناك تعليقات: