الجمعة، 26 مارس 2010


مدينة المرايا

زهرة مرعي


'مدينة المرايا' لروجيه عساف: سيرة منطقة تشتعل بالصراعات
يعرض عذابات الارمن من خلال حياة بول غيراغوسيان

دخل روجيه عساف المخرج المسرحي المميز في لبنان خشبة المسرح حاملاً على منكبيه تاريخاً من العذاب كان لصديقه الرسام والفنان الأرمني الفلسطيني واللبناني بول غيراغوسيان، وجسده في 'مدينة المرايا'.

التشكيلي المميز بشخوصه وخطوطه ومنحنياته. يختزن في أوردته وفي لون دمائه إبادة بحق الشعب الأرمني في تركيا وارمينيا. إبادة أفقدت والده البصر من شدة التعذيب، وأبقت له عذاب الحياة التي عاد وفقدها بالفقر والمكابدة لتأمين العيش في القدس.

من تاريخ سنة 1915 وتوهان قوافل الأرمن في صحراء دير الزور في سورية، وصولاً إلى القدس، لم يطل زمن الهدوء فهبت رياح الإستيطان في فلسطين وحلت النكبة في سنة 1948، فحملها غيراغوسيان في حناياه ولجأ إلى لبنان. وهكذا رافقته صور الجماعات والرحيل والشخوص في الأمكنة المفتوحة على المجهول في أغلب لوحاته. وفي الكتيب المرفق بالعرض المسرحي كتب روجيه عساف أن بول غيراغوسيان الذي فارق الحياة بعيد إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في سنة 1993 هو إختزال لـ'ثلاث مآسي وهجرتان.

ومع ذلك لم يكن نازحاً مقتلعاً. بل على العكس كان فناناً مترسخاً في أرض حقيقية لا حدود جغرافية لها. أرض مقدسية حيث تتوارد صلوات بشرية متألمة تماماً كما في أورشليم/ القدس' .بين بيروت والقدس سيل أسئلة يطرح نفسه على المخرج والكاتب روجيه عساف. منذ زمن وهو مسكون بهاجس صديقه الذي يرى فيه تلك الصلة التي تربط بين القدس وبيروت.

حمل همّ المدينتين وراح يبحث عن إجابات لأسئلته. إلى أن قرر طرحها على الجمهور في ما يشبه المونودراما مستعيناً بما يعرف بالفيديو دراما التي شكلت شبه معرض للوحات غيراغوسيان ولتاريخ الهجرتين، ظهرت على شاشة ثلاثية. 'مدينة المرايا' جاء تحية لفنان يعتبر من الرواد، وتزامن مع القدس عاصمة ثقافية للعالم العربي. ومع هذا وذاك تزامن العرض المسرحي التشكيلي مع هجمة صهيونية جديدة لتهويد القدس وإندلاع مواجهات بين الفلسطينيين وجنود الإحتلال.

بول غيراغوسيان المولود في فلسطين وفي القدس تحديداً سنة 1926 بدأ الرسم هناك في ساحات القدس العتيقة. ذاكرته المشكلة بعطر المدينة الأعرق في العالم هي التي سيرت جزءاً من ريشته. وهكذا كما كان في القدس وفي بيروت حيوياً خصباً معطاء ومثيراً للجدل قدمه روجيه عساف على خشبة المسرح. كان عساف ذاك الحكواتي المؤتمن على التاريخ والفن وكذلك الأحاسيس. ففي هذا العرض الإنساني، العاطفي بإمتياز والطارح للأسئلة أصبحنا وجهاً لوجه مع بول غيراغوسيان.

لامسناه، شاهدناه وسمعناه في شريط مسجل وتعايشنا مع أفكاره الفنية التي يمكن إكتشافها من بين عشرات لا بل مئات الأعمال. فشكل لوحته وناسه المتعبين الكادحين هم توقيع بول غيراغوسيان.

هو عرض على حركة لا تهدأ. فرغم خطوات روجيه عساف المدروسة عليك كمتلق متابعة الشاشات الثلاث، وسيبة الرسم إلى يمين المسرح. لم يكن غيراغوسيان التشكيلي هو البطل الوحيد للعرض، للحظات ليست بالقصيرة إنتقلنا إلى عالم الموسيقى. مع غيراغوسيان الأب الذي هجر فاقداً لبصره من أرمينيا حتى القدس. كان موسيقياً. عذّبه الأتراك حتى فقد بصره. وفي القدس مارس العزف ليعتاش مع عائلته. وفي عاصفة ثلجية قوية هوى ليلاً وهو عائد لعائلته وفارق الحياة في المستشفى. وكان على العائلة أن تكابد مزيداً من الفقر والعوز. في هذه الإطلالة على مهنة الأب كان إنفتاح على موسيقى أرمنية شجية تحاكي الأفئدة. وغناء لصحراء دير الزور وما تختزنه من أنين وحشرجات الموت الأرمني.

روجيه عساف الذي إنطلق شكسبيرياً محاوراً للحجر 'نكون أو لا نكون' ثم يدخل إلى تفاصيل السلم والحرب. إلى المدن الكوسموبوليتية كما كانت القدس قبل النكبة. وكما صارت بيروت مستفيدة من نكبة القدس. المدينتان رحبتان في إحتضان الحضارات والأديان. لكن اللعنة تحل على بيروت في سنة 1975، وبالتالي على غيراغوسيان الذي فقد ساقه نتيجة إنقطاع الكهرباء وهو في المصعد.

في عرضه هذا حكى روجيه عساف المفتون بالحكواتي سيرة منطقة تشتعل بفعل الصراعات. من أرمينيا، إلى فلسطين وصولاً إلى لبنان. هذا الثالوث الذي ترك في غيراغوسيان الفنان والإنسان ندوباً جسدها في ناس لوحاته. ورحل ليتركنا نتفكر في كل خط خطه على جسد متعب مهموم.
روجيه عساف لم يمثل كثيراً ولم يتقمص لحدود نسيان ذاته. ترك غيراغوسيان حاضراً فيه فعشنا معه لساعة ويزيد. عرفنا تاريخه. الإشكاليات التي أحاطت بمحطات حياته المأساوية. شاهدنا وتمتعنا بلوحاته التي تنبض ألماً. وشاهدناه في لقطة مصورة وسألنا لماذا كل هذه المآسي على هذا البشري؟

لقد جمع روجيه عساف تقنيات متعددة في عرضه جذبتنا إلى كل تفاصيله. وجاءت أغنية 'دير الزور' لألين خاتشادوريان لتضع المتفرجين على حدود الرجفة لما تتضمنه من ألم وصوت معبر.

كان العرض جميلاً جداً أضاء فيه عساف من خلال شخصية بول غيراغوسيان على حقبة زمنية تمتد لقرن وفي منطقة ملتهبة على الدوام. 'مدينة المرايا' عرض لمخرج وممثل أسس مسرح الحكواتي سنة 1966. ونال العديد من الجوائز أخرها الأسد الذهبي في لينال البندقية في سنة 2008 عن مجمل أعماله.
***********
عن القدس العربي

ليست هناك تعليقات: